كان جان أيلو (السمَّاك) قليل الكلام، ولكن كلامه كله كان مقصورًا على ذكر المصائب ووصفها كمصائب أقاربه الذين ابتلعهم البحر وهم يصطادون السمك، وعلى كثرة ذكره المصائب لم أجده إلا وادعًا مطمئنًا، كأنما يجد فيها كلها خيرًا؛ لأنها أمر مقدر – وهذا السماك الجاهل يذكرني حكمة (جويتى) كبير أدباء الألمان التي وصل إليها بالثقافة ورياضة النفس بعد العهد الذي أسماه عهد العاصفة والشدة وهي قوله: الرجل السعيد هو الذي يطمئن إلى ما يريده القضاء كأنما هو الذي يريده ويرغب فيه إذا كان أمرًا محتومًا، وقد وصل جان أيلو إلى مثل هذه الحالة بالطبع والغريزة أو العادة.
وكانت خادمتنا ميلاني تمر كل يوم على صاحبات الدكاكين ويشوقها أن تحادثهن، وكان كل حديثهن مقصورًا على ذكر الأسقام والأمراض وأنواعها وآلامها وأوصافها، كأنما في وصفها لذة لهن، فإذا انتهين من حديث الأمراض وَلَجْنَ حديث الجرائم التي تقشعر منها الأبدان – وهكذا ترفه الحياة عن بعض الناس حتى بأنواع غريبة مألوفة من أحاديث النكد والفزع والرعب.
يتفق في بعض الأحايين أن يتنافر زميلان في كل أمر، وأن يختلفا في كل شيء، وأن يتشاجرا في كل خلاف، ومع ذلك تكون بينهما رابطة وثيقة وصلة متينة وألفة دائمة أساسها هذه المشاحنة التي تصير ديْدَنًا لا يستغنيان عنه، وعادة لاتتم سعادتهما إلا بها ودعامتهما إذا استراحا فترة من المشاحنة اتفاقهما في أمر واحد كالسخر بمن عداهما من الناس.
كان في طريقنا حانوت على بابه صنمان، وقد علمتنى أمي أن أراهما يبتسمان إذا أحسنت السلوك ويعبسان إذا أسأت، وكانت أمي تقول: اعمل خيرًا تبتسم لك الدنيا – وتوهمي ابتسام الصنمين وعبوسهما من الإيحاء النفسي، ولكنه مؤسس على حقيقة وهي أن المرء إذا كان راضيًا عن سلوكه وعمله سرت نفسه، فتنعكس أشعة سروره على مرآة الدنيا.
قالت بلقيس: إن سكرة الفزع تسري في أوصال جسمي ليلًا؛ فإن للخوف أو الفزع لذة في بعض النفوس أو في بعض الحالات، وهذا يذكرني قول (لفنجستون) الرحالة المستكشف وقد أوقعه أسد على الأرض ووضع قدمه عليه وكاد يفترسه ويقضي عليه لولا أن رجلًا قتل الأسد، فقال لفنجستون: إني كنت أشعر بذهول لذيذ من الخوف، ولعل هذه اللذة في الخوف من الأساليب التي تخفف بها الحياة في بعض الأحايين ويل الآلام والمصائب، وربما يعتري مثل هذا الذهول كثيرًا من الحيوانات التي تكون فريسة وطعمة لغيرها، ويذكرني هذا قول (بيرون) الشاعر الإنجليزي: إن من رحمة الحياة أن الإنسان لا يستطيع أن يتحمل إلا قدرًا محدودًا من العذاب، فإذا زاد العذاب أغمى عليه أو هلك، وهو في الحالتين لا يحسه – ومما يُذكَر عن الجنود أن أشد الجروح قد لا تصحبها آلام في بعض الحالات أو تصحبها آلام أقل من آلام الجروح الخفيفة.
كان لي صديق اعتزل العالم وعوَّد نفسه ألا يفكر ولا يعمل خشية أن يكون لفكره أو عمله عواقب من الشر يصيب الناس ولا يتوقعه، فقلت له: إن امتناعك هذا قد يجلب الشر أيضًا، وليس الفكر والعمل والقول ما يقصر عليه مصير الإنسان والتحكم في حياته، فإن حصاة صغيرة تنسلخ من جبل قد تكون لها عواقب كثيرة غير متوقعة، وامتناعك عن العمل قد يتخذه أناسًا طريقًا للخير والهداية فيقاتلون من لا يعتنقها. قال صديقي: فلا بد إذًا أن يموت الإنسان حتى يسلم من عمل الشر، قلت: احذر من قولك هذا؛ فإن موتك أيضًا عمل، وكل عمل قد تكون له عواقب من الشر غير متوقعة.
زار جان سرفيان بيت صديقه إدجار، ورأى مظاهر الترف والنعيم، فشعر بنقص ووضاعة، وسألته أم صديقه قائلة: ما صناعة أبيك؟ قال مستخذيًا: إنه مُجلِّدٌ للكتب، وأحسَّ بالغيظ والنقمة على أبيه الذي اختصه بكل ما استطاع، وود ألا يراه أبدًا من الغيظ والحنق والشعور بالذلة. وكل ذلك بسبب زيارة قصيرة لبيت الترف، وهي زيارة لا تنفعه كما نفعه أبوه – وهذا يذكرني اعتراف (جويتى) كبير أدباء الألمان أنه في أحلام العظمة كان يجول في خاطره أن أباه ليس الرجل الذي رباه، بل إن أمه حملت به سفاحًا من أمير جليل الشأن، ويذكرني أيضًا قصة من القصص (جي دي موباسان) سمح فيها فلاح فقير لرجل غني عقيم ولزوجه العاقر أن يتبنيا ابنه وأن يربياه، وكان جاره قد رفض ذلك مستعزًّا بابنه، فلما كبر الغلام الذي ربى في النعيم وترعرع وزار القرية ورآه الغلام الفقير المستعز به حقد على أبويه حرمانه من هذا التبني في كنف النعيم ولعنهما وهجرهما وهما في حاجة إليه في كبرهما – وهكذا الإنسان ينسى فضل أقرب الناس إليه إذا غلبته الأثرة والغيظ والحسد والطمع.
وكان جان مغيظًا محنقًا، وأحس برغبة في أن يرى إنسانًا أو جمادًا – أو حيوانًا – يُشبِع منه نهمة غيظه وكرهه وقسوته – وهكذا الإنسان قد ينكل بمن لم يكن سبب غيظه إذا استشرى الغيظ وتملكه الغضب وفارقه الإنصاف ونزل إلى مرتبة الجنون أو الإجرام أو البهائم أو ما دون ذلك.
قال الأب سرفيان: تعلم يا بني واشتهر، ولا تخش عندما تصير وزيرًا أن نجلب لك المعرَّة بوضاعة أصلنا فإننا نختفي أنا وعمتك في قرية صغيرة، فغضبت العمة وأبت إلا إن تدبر أمور منزل ابن أخيها عندما يتعلم ويشتهر ويصير وزيرًا وألحت على أن تدبر شئونه وشاحنت أخاها وشاجرته، كأنما كانت تعاركه في أمر قد حصل أو هو قريب الحدوث، وهكذا الناس في حماقتهم يتطاحنون حتى على الخيال أو المحال.
قد يتسامح المرء في الاختلاف العظيم إذا اطمأنت نفسه إلى عقيدته أو عرف أن خصمه لا يستطيع السموق بفكره والتسامي برأيه إليه؛ كي يلم به ويستوعبه، كما كان يصنع الراهب لونجمار مع من ينتقد دينه وعقيدته، ولكنه قد يدركه الغيظ إذا خلط مناقشه ووضعه في طائفة ليس منها وبينهما في العقيدة والطريقة فرق قليل إذا كانت بين الطائفتين منافسة، وهكذا كان يغضب الراهب لونجمار إذا نسبه أحد الناس إلى طائفة من الرهبان غير طائفته، وكان يقول: إن الرجل الذي لا يستطيع التمييز بين الطائفتين لا يستطيع أن يرى الذبابة في اللبن، وهذا يدل على أن الطوائف المتقاربة قد تكون أشد تباعدًا ونفورًا بسبب قلة الخلاف بينها، كما يدل على أن الإنسان غريب الخلاف لنفسه، فيتسامح في الأمر العظيم ويتحامق في الأمر الصغير في بعض الأحايين.
إنك إذا اغتفرت لإنسان ذنبًا وكان اغتفارك ذنبه على سبيل الاحتقار له والزراية عليه والإزراء به والإصغار لشأنه والتهوين من أمره، فإنه قد لا يغتفر لك صفحك وعفوك وكرهك إذا كان باعثك على ذلك الازدراء والاحتقار، وإذا عرف أن هذا كان باعثك، وهذا بالرغم من استفادته من اغتفارك ذنبه والصفح عنه.
قد يثير وقار المعاتب الذي لا يقبل الجدل من الغيظ أكثر مما تثيره ضجة المخالف الصاخب الذي يقبل الجدل ويقابل الصخب فيه بصخب مثله؛ لأن الأمر قد ينتهي عند ذلك ولا يخلف كبتًا ولا قهرًا في النفس ما دامت ضجة المخالف تقابل بضجة مثلها أو قد تكون معاودة بعد مثل هذا الخصام إلى الألفة والعشرة، أما وقار المخالف الهادئ الذي لا يقبل جدلًا ولا صخبًا فلا حيلة فيه ولا سبيل لدفع لومه وقد يسبب القطيعة والوحشة طول العمر.
إذا ثار ثائر وخاب وهُزِم عُدَّ مجرمًا عاصيًا، أما إذا ظفر ونجح عُدَّ حاكمًا شرعيًّا – قوله الشريعة والقانون، وأعداؤه المجرمون – فلو أن يوليوس قيصر هُزِم بعد عبوره نهر روبيكون في زحفه على روما، ولو أن نابليون بونابرت خاب وقُتِل يوم انقلاب بروميير عندما ثار على الجمهورية الفرنسية الأولى، لعُدَّا الآن من المجرمين ولم تُعرَف شرائع وقوانين باسمهما.
في بعض الأحايين تستغل حكومة السلطة في الحكم، فيخاف الناس أن تسقط إذا تعودوا تتابع الحكومات المستغلة، فتأتي بعدها حكومة شر منها. وهذا يذكرني قصة امرأة عجوز كانت تذهب كل يوم إلى بيت العبادة كي تدعو ربها أن يطيل حياة الطاغية الذي كان يحكم بلدتها سرقوزة، فعلم بها وأرسل في طلبها. فلما مثلت بين يديه سألها: لأي أمر تدعو له كل يوم بطول العمر. فقالت أخشى إذا مت أن يخلفك من هو شر منك. ويُذكِّر هذا بقصة الجريح الذي سقط الذباب على جروحه وامتص دمه فأشفق عليه رجل، وأراد أن يبعد الذباب عنه فرجاه أن يتركه؛ لأن الذباب الواقع على جروحه كان قد شبع من دمه، فإذا أزاحه عنها حل محله ذباب لم يرتو من دمه بعد فيكون هو الخاسر.
كانت فلسفة (روسو) مؤسسة على أن الإنسان بطبعه مخلوق خيِّر طيب فاضل، وهي عقيدة لا يعتنقها إلا من لا يستطيع الضحك ولا الابتسام، وقد ظهر تناقضها عندما اعتنقها ساسة الثورة الفرنسية الأولى وحاولوا تطبيقها، فقد كان (روبسبيير) يحسب أنه من المستطاع أن يبلغ الإنسان كمال الفضيلة، فاشترك في حكم الإرهاب كي يبلغ به حد الفضيلة، فاضطر إلى الإكثار من استخدام القتل عقوبة، وهكذا كل سياسي عظيم التفاؤل بهذه العقيدة يبدأ بقتل بعض الناس، ولو تُرِك يصنع ما يشاء لقضى على الناس جميعًا أو على أكثرهم.
من العجيب أن كثيرين يضعون الإنسان في فصيلة تشبه فصيلة القرود، ثم يغضبون إذا رأوا خصاله تشبه خصال القرود.
إنما كتبت قصة الثورة الفرنسية كي أوضح أن الإنسان لم يبلغ من الكمال حدًّا يُمَكِّنه من أن يكون عادلًا إذا عاقب بدعوى مناصرة الفضيلة، فالرحمة إذًا أقرب إلى العدل، ولن يتم عدل الإنسان إذا نظر إلى جانب العدل وحده وأهمل جانب الرحمة – ولكن الناس تثور وتقتل وترتكب الموبقات بدعوى مناصرة الرحمة أيضًا وإزهاق ما يخالف مبدأها.
قرأ لنا معلمنا المسيو كروتو قصة مارسياس الإنسان الحيواني الذي أراد أن ينافس أبُولُّون رب الفنون الجميلة فقهره أبولُّون وقتله وسلخه، فارتعت ووجمت ولم أعرف كيف أسوغ قسوة رب الفنون الجميلة إذ سلخ خصمه، وأخلق بمن كان رب الفنون الجميلة أن ينزه نفسه عن هذه القسوة الشنيعة وأن ينزه الناس عن قدوتها، وإلا فبأي شيء تكون تلك الفنون الجميلة إذا لم ينزه نفسه، ولكن عندما تذكرت أن صورة مارسياس تشبه في خيالي صورة معلمنا كروتو الذي كنت أمقته، سهل علي أن أغتفر لأبولُّون قسوته – وهكذا الإنسان يسوغ الشر إذا وقع بشبيه من يكره ولا يرى القسوة قسوة إذا قاساها من يعادي أو شبيه من يعادي.
أستطيع أن أقول قول (روسو): إني لا أكذب إلا لتأييد الحق – وإذا استرسل المرء في هذا المنطق استطاع أن يسوغ كل شر بدعوى تأييد الحق أو تأييد ما يخال أنه الحق، وإن لم يتضح له ولم يتحقق بما لا شك فيه أنه الحق.
كان من سوء حظ جان سرفيان وهو عائد إلى منزله أثناء ثورة الكوميون في باريس أن قابل بعض الثوار تقودهم امرأة، ورأى الثوار أن جنود الحكومة يقتربون، فأرادوا الفرار، فقالت المرأة: نقتل هذا أولًا وأشارت إلى جان ولم تكن تعرفه ولم يكن له ذنب بل كان من حزبها أو يميل إليه، ولكن المرأة استهواها حب سفك الدماء فأطلقت عليه الرصاص ووقفت ترقص على جثته – وعدل هذه المرأة أو ظلمها مثل عدل أو ظلم كثير من الناس وإن ظهروا في مظاهر أخرى؛ إذ أن من عادة الناس أنهم ينكلون أولًا ثم يبحثون وقد لا يبحثون.
كُتَّاب الاعترافات يغالطون أنفسهم ويغالطون الناس؛ إذ يزعمون أنهم لم يخفوا عن القراء شيئًا من حياتهم وأفعالهم وخصالهم وخطرات نفوسهم، إذ أن هذا الاعتراف الكامل أمر لن يستطيعه إنسان، ولم يستطعه جان جاك روسو، بالرغم من صراحته في اعترافاته وذم نفسه والإساءة إليها.
أعظم فائدة تفيدها حقائق الحياة أنها أساس يبني الناس عليه آمالًا للحياة ليست فيها.
مما جعلني أغتفر للحياة آلامها أني قرأت قصة لكاتب وصف فيها أناسًا لا يغضبون ولا يحزنون ولا يألمون ولا يشتهون ولا يحبون، فرأيت أنه قد محا السرور والسعادة والجمال والشعر والفنون عندما محا آلام الحياة ومكارهها.
كنت في صغري أحب أن أتودد إلى أقراني، فيعتريني الحياء، فلا يكون جزائي إلا السخر؛ لأن الحياء يبعث على الإحجام عن التودد والارتباك والتردد فيه، فلا يكون نصيب صاحبه إلا السخر منه والانصراف عنه – وقد يخال ما به الكبر والصلف والزهد في الناس والتعالي عنهم – وهذا إذا لاقى من هو أكثر منه جرأة، فإذا قابل من هو في مثل حيائه كان نصيبه أيضًا الإهمال والانصراف عنه، فالناس كثيرًا ما يسيئون الظن بصاحب الاحتجاز والإحجام عن التقرب إليهم من حيائه، وخشية أن يكون نصيبه في تقربه منهم النفور منه أو الإهانة أو السخر أو الازدراء، فكم منع الخوف من هذه الأمور من مودات وألفة وتفاهم، والناس معذورون؛ إذ أن صاحب الحياء يشعر بنقص من أجله وقد يستره بالكبر، وقد يغالي فيستره بالخشونة والتجهم في معاملة الناس.
ربما كان أشد الناس اضطهادًا للناس هم الذين قاسوا آلام الاضطهاد وثاروا عليه ولكن معاناتهم له لا تعظهم، والمعروف أن الذين يريدون أن يغيروا نظم الحياة كما يشاءون يأبون على غيرهم أن يريدوا ما أرادوا، وقد يغالون في ذلك. وقد كان أحد أعضاء مجلس الشيوخ يرتعد إذا رأى شبانًا في مظاهرة سلمية، ويود أن يستخدم الشرطة النار والسلاح لمنعها، وهذا الشيخ كان في شبابه عضوًا في كل جمعية سرية ثورية، وزعيمًا في كل ثورة، ومن الأقوال المعروفة: أنك إذا أردت أن يتخلى ثائر عن حدته فاجعله وزيرًا فإنه يصبح من المحافظين، إذ أن مسئولية الحكم ونظرته إلى الأمور تدعوانه إلى أن يرى من الأمر ما لم يكن يرى قبل قيامه بأعباء الحكم.
كثيرًا ما يحدثك محدث فيقول: سنرى قريبًا تغيرًا كبيرًا في نظم الحياة وسننها، ولكن الأمور لا تتغير إلا ببطء – وما دام الإنسان إنسانًا فإن طبائعه وغرائزه التي نشأت ونمت ورسخت في مئات الآلاف من السنين لا تتبدل إذا تبدلت إلا ببطء، فمثل الإنسان إذا غيَّر نظام حياته وحسب أنه غيَّر طباعه أو نسخها مثل من يغيِّر ثيابه ويحسب أنه قد غيَّر نفسه، وليس معنى ذلك أن نظم الحياة لا يحسن أن تتغير، فقد قال أناتول فرانس في مكان آخر: إن نظم الإنسان وشرائعه وقوانينه كثيرًا ما تكون مؤسسة على القسوة والظلم والمحاباة، فإذا لم تنظف من حين لآخر كانت كالحجرة المظلمة المهملة تحت الأرض تربى فيها الحشرات وتغزل فيها العناكيب خيوطها وبيوتها، فليس لها إلا المكنسة.
الغريزة في الفن كالغريزة في الحب، هما الدليل الذي يعتمد عليه، فإذا فارق الإنسان غريزته في الفن كان كالسمك الذي أُخرِج من الماء لا تطول حياة فنه بعده.
إن الأفكار الغالبة على الجنود وإن كان بينهم أبطال أفكار بعيدة عن البطولة، وكذلك نزعاتهم مثل الإقدام على العدو خوفًا من أن يبيدهم إذا نكصوا وولوا الأدبار، أو مثل خوفهم من العار والتعيير إذا أدبروا وجبنوا، أو مثل اتقاء العواقب المتنوعة غير المعروفة للهزيمة إذا انهزموا خوفًا، أو مثل الخوف من الحكم بالإعدام على من يفر هربًا أو حتى مثل الخوف من الخوف، فإن الخوف من الخوف قد يؤدي إلى مظاهر الشجاعة والبطولة، أو لأن الإنسان سريع الاستجابة للإيحاء، فإذا وضعت في يده سلاحًا أحس بميل إلى إدخاله في بطن ما.
كثيرًا ما تصدر عن المرء أعماله وأقواله كأنها آتية إليه من خارج نفسه، وإنما هي من استجابته لأمور الحياة واندفاعه في تيارها، ومن أجل ذلك كثيرًا ما يكون المرء أعظم أو أحقر من نفسه، أي من المألوف منها في حياته.
من فوائد العمل أنه يصرف المرء عن التفكير في آلام حياته وعن الأفكار التي قد تستحوذ على العقل والنفس وتستعبدها فتكون مثل الجنون وهو يشيع الغرور في الإنسان، وقد يوهمه القدرة على مغالبة القدر ويلفت المرء عن مقدار عجزه في أمور كثيرة.
صديقات عقيلة برجريه أرغمنها على ترك زوجها، وكانت قد خانته وقبلت وهي تحتقره في سرها، لأنه هو المظلوم، أن تغتفر له لومه إياها وأن تصالحه وتبقى معه، ولكن صديقاتها أبين إلا أن تترك بيته صيانة لكرامتها بعد أن اتهمها في شرفها، وكن يظهرن مؤازرتها ومناصرتها، وإنما كان مقصدهن الذي أخفينه رغبتهن في التخلص منها وهي ثقيلة لديهن رعناء، وقد تفضحهن برعونتها وحماقتها، فكان كيدهن لها يلبس لباس المناصحة والمؤازرة، كما أنهن كن يكرهن زوجها لأنه كان رجلًا مفكرًا وكن يسئن به الظن من أجل ذلك.
إن خلق عالم جديد ربما كان أسهل على المرء من فهم نفسه فهمًا كاملًا على سبيل التقصي من غير أن يفوته شيء من حقائقها.