كثرت وجوه تعلوها صفرة، وكثرت عيون يقل نارها ونورها في هؤلاء الصغار الذين يبكرون إلى مدارسهم في هذه الأيام التي انقضى فيها موسم المسامحة وابتدأ فيها موسم الجد والعمل.
يسيرون زرافات وأفرادًا إلى حيث تراض نفوسهم الفتية على التهذيب وتدرب أفهامهم على المعرفة. ولقد تاقت نفسي لزيارة دار من تلك الدور التي نلقي فيها بأبنائنا لنعدَّهم لمآزق الحياة وملماتها، فزرت مدرسة أحسب أنها على هيئة أكثر مدارسنا الابتدائية.
إنها واسعة وجميلة تلك الغرف التي يجتمع فيها هؤلاء الصغار، مشبعة بهواء تحتاج إليه جسوم طالما عملت مساكننا الرديئة على إضعافها. حيطان قد يعلق عليها من الخرائط ما يعين على الفهم وتربية الذوق. مرتبة حركات التلاميذ ومنظمة، وكل ذلك نرضاه ونحرص عليه، ولكننا أكثر حرصًا على أن تحوَّل في اتجاه تلك الغرف روح تهذيبية ذات غرض معين يتطبع به التلاميذ في صغرهم، وتظهر آثاره عليهم عندما يبلغون الكبر.
لست أشعر بوجود تلك الروح التهذيبية التي يجب أن تسود في مدارسنا ومكاتبنا، وكأني كنت أرى عند زيارتي لتلك المدارس والمكاتب جسمًا لا يخلو من حسن التركيب، ولكنه يخلو من الروح المؤثرة الفياضة.
إن واجب المدرسة الأولى أدنى إلى تهيئة النفوس وإبداعها للخلق منه إلى شحن القول بألوان من العلم والمعرفة؛ وعلى ذلك ينبغي أن تكون الغاية من الدراسة الأولى إعداد النفوس وطبعها بطابع تظهر فيه شخصية الأمة كما تريد أن تكون الأمة عليه.
أنريد أن نكون أمة حرب وعراك؟
أنريد أن نكون أمة ناعمة متحضرة؟
أنريد أن نكون أمة تنصرف عن الحياة الدنيا للحياة الآخرة؟
أنريد أن نكون أمة تاجرة أو صانعة أو زارعة؟
حددوا لي ما تريدون أن تكون عليه الأمة، ثم اطبعوا نفوس أبنائكم على ما تريدون، واحتالوا عندئذٍ على أن تدخلوا في برنامج الدرس إلى جانب ما تسوقونه إلى الرؤوس مع العلم جانبًا موفورًا من آمالكم تسوقونها إلى تلك القلوب الغضة لترق بها تلك القلوب في الكبر.
إنكم تحشرون في مدارسكم الأولى زمرًا من المعلمين الأقل تجربة، والأصغر نصيبًا من العلم، وتزعمون أن تربية الصغار يسيرة هينة، ولكنكم في زعمكم خاطئون؛ ذلك لأن الولد الذي تريدونه درعًا للمستقبل وعدة لأمتكم الناهضة يدعوكم للعناية لتكوين نفسيته ورياضتها بأحسن أسلوب على تلك المطامح التي تقصد إليها الأمة في سبيل النهوض، وأنه ليس من السهل على معلم يقل حظه من التجارب، والحذق والمهارة والخلق والعلم أن يسوق النفوس الناشئة إلى حيث تتصل بالأغراض العالية التي تطمح إليها الأمم، وعلى ذلك يجب أن تعي المدارس الأولى أن التقصير في ذلك جرم كبير.
إن مدارسنا الأولى تخلو من الروح والطابع التهذيبي، وإن المعلم فيها لجدير بعنايتنا الفائقة.
مدارسنا الأولى فيها عدة مآخذ قد أذكرها عندما يكون أوان القول ونفعه، ولكن أوضح تلك المآخذ عندي خلو أساليب الدرس الابتدائي من لون معين، اللهم إلا ذلك الذي يعالجون به تخريج العمال والموظفين! ولكن ما لهكذا نريدكم يا أبناءنا فحسب.
أي بني: ما لهكذا يريدكم النهوض العام، وما لهكذا يريدكم الآباء، وما لهكذا يريدكم الوطن.
إن النهوض العام يريد لذويه أن تنتقل إلى الأحسن، وتتجه إلى الكمال، وإن الآباء لتريد لأبنائها سعادة في الحياة ونعيمًا، وإن الوطن ليريد من بنيه كل شديد في الحق، قوام بالواجب، فهل تسري حقًّا في مدارسنا روح الولوع بالكمال وروح الرغبة في الحياة المسعدة، روح التمسك بحق الوطن وواجبه؟
أي بني: إني أرى في وجوهكم شحوبًا وفي أجسامكم نحولًا، فكم جيلًا قد أذنب من آبائكم فورثكم هذا الشحوب والنحول؟
كم جيلًا مضى قد عمل على إطفاء ذلك النور البراق الذي كان ينبغي أن يكون في عيونكم لتظهر فيها همامة الأمل ولمعة الذكاء؟ وكم جيلًا سلف قضى شقاؤه وبؤسه على تلك الورود التي كان ينبغي أن تغير في وجدانكم؟
كم جيلًا أذنب، وكم من قوة ينبغي أن تُبذَل لنخلص أبناءنا من آثار الوراثات السيئة؟
أحب أن أرى في تلك الجسوم الصغيرة قوة الأشبال، ومرونة النمور، ونشاط النحل، وبسمات الزهر.
إن خلف الضباب شعاعًا من نور، وفي خافية الأعين بصيصًا من رجاء، وفي عميق القلوب دقاتٍ من حياة، وإن الله من وراء سمواته الواسعة معين على إظهار ذلك النور، وتحقيق ذلك الرجاء، وبلوغ ما نطمح إليه من حياة.