أتمنى أن يكون مكاتبو الصحف الذين ينقلون إلينا أخبار الحفلات العامة لا يقصرون جهدهم على تصوير تلك الحفلات تصويرًا إجماليًّا، أتمنى أن يعملوا التفكير في دقائق الأمور، فقد يكونون فيما يصلون إليه من الملاحظات الدقيقة في الشؤون العملية أبلغ درس في حياة الاجتماع.
***
ضرب النشيد الوطني، وكان السادة العلماء المعممون في مكان خاص يكاد يجعلهم في عزلة عن المدعوين الآخرين، لم ينتبهوا — حفظهم الله — إلى أن النشيد الأهلي المصري ينبغي أن يُحيَّا بالوقوف إجلالًا؛ لأن فيه إجلال الوطن، قام الناس جميعًا، وأدى رجال الجيش تحيتهم العسكرية، ولكن سادتنا المعممين لم يقوموا؛ لأنهم لم يفرقوا بين مختلف الأنغام، ظل أغلبهم جلوسًا على مقاعدهم إلا نفرًا منهم تنبه إلى حركة الناس فحاكوهم في القيام، إيه سادتنا!قد أفهم أن صعوبة حياة التقى حالت بينكم وبين أن تميزوا بين نغمة ونغمة، ولكني لست أفهم كيف أنكم لم تتنبهوا إلى أن الناس قاموا إجلالًا لأمر لم تتبينوه، وكان من حسن الذوق أن تفعلوا ما فعل الناس ما دمتم من الناس، وتشتركون فيما يشترك فيه الناس!
***
أمر أولو الشأن بعرض الألعاب النارية، فحول السادة العلماء كراسيهم ليصوبوا النظر إليها، ما أجملها! … من النار تتصارع أضواء على أشكال الفواكه والطيور، ألوان مختلفة جميلة: بنفسجي، وأزرق، وأخضر، وفضي، وذهبي، وقمري، وشمسي، أحرف وكلمات مرسومة في الفضاء، ما أبدع هذا وما أجمله أيها السادة العلماء! على أن هذا البديع الجميل حسنة من حسنات العلم، وأن العلم لا يحيا لينتج البديع إلا في جوٍّ حُرٍّ صافٍ، فهل ذكرتم وجوب العمل على إفساح الحرب الفكرية للعلم الذي أنتم تبتهجون اليوم بثمرة صغيرة من ثماره!
***
حضر أكثر السادة العلماء من ذوي المراتب الضخمة حفلة وفاء النيل … قد يكون احترامًا للتقاليد المتبعة، قد يكون لك لمكانة الداعين من هيئة رجال الحكومة، قد يكون لشعورهم المحمود نحو النيل فياض البركات على بلادهم، وقد يكون أيضًا ليأنس بعضهم ببعض، وليتسامروا حول الموائد الكريمة الرسمية المعدة لهذه المناسبة، وقد يكون لذلك جميعًا، ولكني ألاحظ أنه لم يحضر في حفلة تذكار الشيخ عبده هذا النفر الموقر، وقد أُرسِلَت لهم الدعوات، وكان قدومهم مما يُنتَظَر ويُرتَجَى معًا، إن سادتنا العلماء أهل الله وأهل البر بإخوانهم وأهل الوفاء وأهل الإحسان يعرفون كيف يلبون الدعوات ومقام الاحتفالات.
***
وجدت في السرادق الفخم لوحات من ألواح الزينة التي اعتاد أن ينصبها الفراشون في السرادقات الفخمة، وخط على بعضها: «ليحيى سلطاننا» ذهبت إلى أن أصحاب السرادق من طائفة الفراشين هم من آخر الطبقات علمًا بما يجري من شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية، ولكني تذكرت أن هذه الطبقات كثيرًا ما كنا نراها تصيح لنصرة رأي أو حزب سياسي وتعمل مع العاملين لخذلان رأي آخر، وقلت في نفسي: كيف يكون أن قومًا يحشرون أنفسهم في زمرة السياسة ويشتغلون مع الأحزاب يجهلون أن الأمور تغيرت فأصبح السلطان ملكًا، وكان الأولى بسادتنا رجال المحافظة أن ينبهوهم إلى ذلك إن كانوا جاهلين.
***
كُتِبَ على تذاكر الدعوة التي أُرسِلَت للإفرنج أو مَن في حكمهم: «فلان وعائلته»، وقد حضر الإفرنج ونساؤهم، وابتهجوا بما في الاحتفال من وسائل السرور، ولم أجد من الوطنيين على كثرة من حضروا من نُبِّه للحضور مع عائلته.
الواقع أن الفكرة الوطنية لم تنتبه لوجوب إشراك العائلات في الحفلات، ولا أدري لذلك سببًا يقوم على الحكمة والعقل، قد كان أمام أعيننا مثل من نساء الإفرنج حضرن الاحتفال، ولم يحصل شيء يخل بالأدب ويؤذي طبيعة الحياء.
إذا خفنا من خدش الآداب ونحن في الطبقات المختارة، ومن أحسن القوم وجاهة وخلقًا فأين تكون فينا الأخلاق التي نأمن معها ولا نخشى منها، وإذا كنا نشك في أخلاق جميع الطبقات فقد كان فينا بالأمس حاكم المدينة ورجاله وجيش من حفظة الأمن والآداب، فلماذا حرَّمنا على نسائنا حق الاشتراك معنا في هذا الاحتفال وكل شيء فيه كان كفيلًا بحفظ الآداب؟!
***
يقولون إنه صُرِفَ كثير من الأموال على حفلة وفاء النيل، ونعلم أن كثيرًا من الأموال يُصرَف على حفلات رسمية كثيرة، وإني ممن لا يصونون المال على حفظ التقاليد القومية الراقية الجميلة، ولكن قد تُحتَرَم التقاليد دون غلو في الإسراف لا سيما أننا نقول إنا نحتاج لنشر التعليم. إن ما يخصص من الأموال للتعليم قليل جدًّا.