أيها السادة: منذ أكثر من عشرين عامًا ونحن صبية في أيام الدراسة الأولى أذكر أنني كنت مع رفيق لي في شارع الدواوين.
قيد أبصارنا على مقربة من باب إحدى الدواوين مرأى شيخ معظم أشيب ربع القامة، مهيب الطلعة، لطيف المشية.
نظرنا إلى الشيخ نظرة المتفرج المتعجب، حتى دخل الديوان وتوارى عن أبصارنا، قال صاحبي: ذلك هو الشيخ عبده، فقلت: كان ينبغي أن نحييه، وعاتبت رفيقي على أنه لم يبدأ بالتحية فأتبعه، وعاتبني إذ لم أكن البادئ فيتبعني، ثم حمل كل منا رفيقه إثم ذلك التفسير، وانتحل كلٌ منا لنفسه ما استطاع أن يدفع به عن نفسه من المعاذير.
سرنا في سبيلينا واستبقى خيالي صورة ذلك الشيخ الذي كنت رأيته للمرة الأولى، وأخذت تمر أمام نفسي تلك الأقوال التي كانت تقذف حول اسم ذلك الرجل الجليل.
أخذت أتصور معني الإصلاح لأني كنت أسمع أنه من المصلحين، وحتى العلم لأني كنت أسمع أنه من أكبر العلماء، ومعنى الخروج عن المألوف لأني كنت أسمع أنه من الذين خرجوا عن المألوف الذي لا يعتمد على حق ولا على عقل، ومعنى العظمى لأني كنت أسمع أنه كان عظيمًا.
أخذت المعاني المختلفة تتوالى على ذهني الضعيف؛ لأن الأحاديث التي كانت تدور حول اسم الشيخ كانت مختلفة الألوان أيضًا.
ما كنت أستطيع وقتئذٍ أن أدرك حق الإدراك معنى العلم، ولا معنى الخروج عن المألوف، ولا معنى العظمة، ولا معنى الإصلاح، كنت لا أدرك ذلك، وكان زميلي مثلي لا يدرك المعاني أيضًا، ولكنا كنا نشعر بشيء واحد، وهو رغبتنا المتبادلة في أن نؤدي لذلك الرجل تحيتنا إكبارًا له وإجلالًا.
كنا نرغب في ذلك أيها السادة، وكلنا في نفوس الصغار والسذج حسبما يدركون به معنى العظمة وشعورًا خاصًّا يتبينون به ميزة الرجل العظيم رغم ما يميزها من أقوال المنتقدين وذم الحاسدين وثائرة الجاهلين.
ففي القضاء — أيها السادة — أن تكون تلك المرة التي رأيت فيها الشيخ هي الأولى والأخيرة، ولكن الله يريد أن أقف اليوم لأحيي الشيخ تلك التحية التي كنت أريد أن أقدمها إليه منذ عشرين عامًا.
نعم أيها السادة، كنت أريد أن ألبي ذلك الرجل وأرضي في بدائية العمر وعناية العلم، واليوم أتقدم بالتحية وأنا أخدم العلم الذي كان الشيخ يخدمه، وأحصل ثمارًا كان الشيخ يعمل على إنضاجها، وأعين على تغذية أذهان طالما أراد الشيخ أن تشبع علمًا.
كنت أريد أن أحيي الشيخ منذ عشرين عامًا؛ لأني كنت أشعر أنه عظيم وممتاز، والآن أتقدم لتحيته وقد أصبحت أدرك شيئًا عن معاني العظمة والامتياز.
العظمة — أيها السادة — واسعة واسعة تتضاءل أمام سمتها وهيبتها كل المعاني، العظمة في المعاني التي إذا مست الكون يتقدم عندئذٍ الفاسد، ويتلاشى الحقير، ويظهر الصالح، ويعلو الكبير.
العظمة متحركة لا تعرف القرار والسكون، وتمتد كاللهب في كل جهة وتعمل فيما تصيبه عملها النافع.
لا تعرف القرار؛ لأنها تجري وراء الكمال وأمام الكمال.
على ذلك يكون الرجل العظيم هو الذي يريد أن يعوض الناقص بالكامل ويعتمد على نفسه المتلهبة الحارة، لا يريد أن يقف حيثما يقف الناس؛ لأنه يرى الحياة سائرة والكمال سائرًا، وهو يسير أينما سارا، لا تكون نفسيته حيث تكون نفسيات الناس؛ لأنها كبيرة تمتد في الوجود اللانهائي ونفسيات عامة الناس صغيرة متضائلة لا تسد في الوجود إلا فراغًا يسيرًا.
تلك هي بعض صفات العظيم، فهل كان الرجل الذي نذكره اليوم على شيء من هذه الصفات … إن من يطلع على حياة الشيخ يتبين القوة العظيمة التي كانت تقوم عليها نفسه الكبيرة، وأدل دليل على ذلك أن الأعمال التي اتصلت بها جهوده وقع فيها حرب بين أسلوب القديم وأسلوب الجديد، وأنه هو حامل لواء الثاني متفانيًا، ويكافأ في جهاده مظفرًا منصورًا.
أليس هو الذي عند اتصاله بصناعة الصحافة والتحرير أدخل في التحرير أسلوبًا أصبح روحها الكتابة لأسلوب يحضره وجهه الدقة والطلاوة؟
أليس هو من أدخل الأساليب الحديثة في التعليم؟
أليس هو من أوعز ليربط العلوم الإسلامية بالبيانات الصحيحة الواسعة وتوجيهها وجهة الطرق العلمية الصحيحة؟
أليس هو الذي كان صوته عاليًا في محاربة روح الاستبداد والجمود أينما تكون؟
أليس هو الذي أكبر شأن الإفتاء عند اتصاله بذلك المتصوف الكبير، وأخذ يفتي في أقطار الإسلام المختلفة بطريقة سلك بها الإفتاء الشرعي مسلكًا جديدًا.
أليس هو الذي كان يوفق بين روح المحافظة وروح التجديد، وروح الدين وروح العلم، حتى يستفاد من حسناتها جميعًا؟
أليس هو من أصحاب الفضل في المناداة بحرية الفكر واحترام استقلال الرأي؟
إن الجيل الناشئ مدين للشيخ عبده بتقدير التسامح وتقدير فوائد الاستقلال الفكري، وقد جاهر الشيخ بفضل ذلك في خطبة ألقاها بتونس، إذ قال: «أقول قولي هذا ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله، وإلا خالفت ما أدعو إليه من استقلال الفكر وحرية الرأي …».
إن الجيل الحاضر يقدر له بلاءه الحسن في احترام الرأي القائم على التفكير، ويجب أن يقدر له المشتغلون بالعلم صيحته الصارخة بوجوب تعديل التعليم بحيث يخرج العلماء المشتغلون بالأبحاث العقلية المحضة.
قال بذلك في وصيته السياسية التي كتبها بالفرنسية إلى الكونت دي جريفيل في مؤلفه «مصر الحديثة» في 6 يونيو سنة 1905، أي قبل موته بنيف وثلاثين يومًا، وسينشر أخونا الدكتور حسين تعريبًا للوصية قريبًا.
قال الشيخ في هذه الوصية:
إذا نظرنا إلى التعليم الذي تنشره الحكومة من حيث قيمته فنحن مضطرون إلى أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر إلا على تكوين رجل محترف بحرفة يكتسب بها الحياة، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو فيلسوف، فضلًا عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التي تمثل التعليم العالي في مصر إنما هي مدرسة الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التي يتكون منها العلم الإنساني فقد ينال منها المصري أحيانًا صورًا سطحية في المدارس الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتفقه منها شيء، وهو في الغالب مكره على أن يجهلها جهلًا تامًّا، وذلك شأن العلم الاجتماعي وفروعه التاريخية والخلقية والاقتصادية، ذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة والآداب العربية والأوروبية والفنون الجميلة أيضًا، كل ذلك مجهول لا يدرس في مدرسة مصرية، والنتيجة أن في مصر: قضاة ومحامين، وأطباء ومهندسين تختلف كفاءتهم قوة وضعفًا في احتراف حرفهم، ولكنك لا ترى في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث، ولا المفكر ولا الفيلسوف ولا العالم، لا ترى الرجل ذا العقل الواسع والنفس العالية والشعور الكريم، ذلك الذي يرى حياته كلها في مثل أعلى يطمع فيه ويسمو إليه.
يتبين لكم مما تقدم — أيها السادة — أن الشيخ كان مبشرًا بدار العلوم العقلية العالية، ولم يمض قليل من الزمن حتى أنشأت الجامعة المصرية صدى لأمنيته الكبيرة العالية.
لا نزال إلى اليوم نحتاج إلى مثل هذه الصيحة تنبيهًا إلى أننا نريد علومًا توجد فينا رجالًا واسعي العقول.
نريد علومًا تكوِّن فينا أخلاقًا ومداركًا، وتحبب إلينا الحياة، أو تبيِّن لنا ما يمكن أن يكون في العيش من جمال وسمو.
نريد ذاك الآن، وقد أراده الشيخ من قبل وجهر به وأوصى، فلا غرابة وقد أخذت أمانيه تسير في سبيل التحقيق أن يقوم في الجامعة المصرية أحد أساتذتها يذكر الشيخ بالحمد والتحية والإجلال.
أيها السادة: إن الوقت الذي قدر لي لأقف بينكم ذاكرًا الشيخ لا يتسع لتعديد حسناته في حياتنا الاجتماعية، ولكنه حسبه من العظمة أنه كان من زعماء الدين ومن زعماء الدنيا معًا.
توجه إلى شؤون التصوف والتقى وفقه الدين، ولكنه لم يهمل شؤون الإصلاح والعمران.