«آلام فرتر» من أشهر الروايات الأخلاقية الألمانية، ترجمها إلى العربية الأستاذ الزيات، وهو من أبرع أدبائنا؛ فكتب إليه صديقنا الباحث الجليل الدكتور منصور فهمي:
عزيزي الأديب «الزيات»:
هل حدثك الليل — أيها الصديق — عن أفئدة يهزها نوع من الشوق وأصناف من الحنين وألوان من الذكرى؟ وهل حدثك الصبح المتنفس عن صدور تسكن حناياها آلام فتضيق عن بدائع الكون وروائع الوجود؟ وهل حدثك النسيم البليل عن قطرات نقية تصعدت من دموع طاهرة أسبلتها عيون المتدينين إلى الله يستدرون رحمته ويطلبون رضوانه؟
إذا كان الأمر كذلك فقد وفقت كل التوفيق، وأحسنت جد الإحسان وأنت تتقدم إلى هؤلاء الأليمين والآملين والذاكرين والمسترحمين تخاطبهم بلسان رجل أحب، وألم وأمل وغفر وأصغر المادة وأكبر الروح وعاش بالوجدان، وأحسنت الاختيار — أيها الصديق — بترجمتك «آلام فرتر» للكاتب الألماني الفيلسوف جوتي، ففيه البلسم الناجع للعواطف التي فرختها صروف الحياة، على أنك بهذا الاختيار لم تقصر جهدك النافع على طائفة من الناس فحسب، بل خدمت أمتك الناهضة؛ ذلك لأن الأمم لا تنهض إلا إذا اتجهت نفوسها إلى المطامح، وسمت أبصارها إلى السماء، ذلك لأن الأمم لا ترقى إلا إذا تمثلت درجات من المثل العليا كلما استقرت منها قدم على إحداها رفعت الأخرى إلى ما فوقها، ذلك لأن الأمم لا تحيا إذا مدت النظر من الحسن الواقع إلى الأحسن المطلوب، ولعمري ما يتهيأ لها ذلك إلا برقة العواطف، وانبساط الخيال، وصفاء الوجدان.
يذهب كثير من المفكرين إلى أن خدمة الأمم في نهوضها وتطورها أحق بها العلم وأولى بها جهود الفكر، فلا يتلقون بالبشر والرضاء ثمرات الأدب من شعر وعواطف، على أنني لا أقيس الأمور بمقياسهم ولا أعايرها بمعيارهم، وأرى أن الأدب لا يقل قيمة عن العلم في تقويم الشعوب وتثقيف الأمم، بل وبما كان أوفر حظًّا وأبلغ أثرًا في إيقاظها وإنهاضها.
يا ويلتاه إذا استفتيت العلم في أمور الحياة فأفتاك أن حسبك منها مادة مغذية تقيم صلبك، وسبب للنسل يبقي نسبك، ودفء من الوبر يحفظ جسمك! ولكنك إذا استفتيت الأدب والخيال فإنهما لا يقنعانك بأسباب العيش، ولا يقفان بك عند الحاجة، بل يسعيان بك إلى الحياة الأنيقة الراقية، والمعيشة الزاهية الخلابة، ويدفعانك إلى التحول من الناقص إلى الأكمل، والانتقال من المفضول إلى الأفضل، بدافع من الميول والعواطف، وما إطار الميول والعواطف إلا الأدب والشعر؛ ومن ثم يستنهضنا كتابك القيم إلى الحياة الكاملة.
ليس كتاب «آلام فرتر» بمفيد طائفة من الناس هم في حاجة إلى العزاء والسلوى فحسب، وليس «آلام فرتر» بأهل لإعداد المشاعر إلى تذوق الجمال وتنعم الفن فحسب، وإنما يؤثر في نفوس الأفراد تأثير المربي الصالح؛ ذلك لأن الذي يقرأه ويقدر منه أن الحياة ليست جديرة أن تحيا ما خلت من الأمل الطيب والعاطفة الشريفة والعيش الرغيد، تقيس نفسه من مثل هذا الكتاب معانٍ سامية من المروءة والأخلاق، وتستفيد دروسًا نافعة في الاستهانة بكل نفيس في مواقف الذل والمهانة.
لو أنني أردت أن ألفت المتعلمين إلى الأسلوب الشيق، والألفاظ العذبة، والعبارات الدقيقة لما رأيت خيرًا من «آلام فرتر» الذي ترجمته أيها الصديق الفاضل، فإني من الذين يعتقدون أنه إذا جاد المعنى وحسنت العبارة واختير اللفظ كان من ذلك صورة جميلة ترتاح إليها نفس القارئ، ومتى تعودت النفوس استمراء الأساليب العذبة، وألفت الأسماع التلذذ بالنغمات الجميلة، تعوَّد الإنسان حب الجمال وفهم الجمال؛ومتى فهم الجمال في الكتابة تدرج إلى فهمه في الأشياء، ومتى فهم الجمال في الوجود تدرج منه إلى عمل الجميل.
فشكرًا لك — يا صديقي — إذا أبحتُ لنفسي أن أشكرك عمن يجدون في عملك النفع والفائدة، وإذا شكرتك فمن الحق علي أن أشكر أيضًا لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أنت أحد أعضائها على ما ترجمت من الكتب للطلبة في الفلسفة، وصنفت من المؤلفات القيمة في العلم والأدب، ثم جاء كتابك آخر أثر من آثارها الصالحة المحمودة.
وأرى قبل أن أختم كتابي أن أصارحك بأن لك عندي يدًا لا يستقل بشكرها غير الدعاء لك، فقد تأوبتْني هموم الليل وضايقتْني طوارق الشجن، فلم أجد من أبثه الشكوى وأطارحه النجوى غير كتابك الصامت الناطق، ففزعت إليه أناجيه وأشاكيه، وكان منه ما هدأ به ثوران قلبي، وسكنت آلام نفسي. والنفوس العاتية لا يسكتها إلا آلام المنكوبين وأحاديث المهمومين. جزاك الله خير الجزاء وسدد خطاك، وخطى شبابنا الناهض في مدارج الكمال، ولك مني التحية الخالصة والود الصادق.