الكاتب: عباس محمود العقاد
الناشر: مجلة الإثنين
تاريخ النشر: سبتمبر 1948
هذه هي الأحلام التي ساورتني في صباي الباكر من الثامنة إلى الثالثة عشرة، قبل أن أعرف نفسي، أو قبل أن أعرف أن «الأدب» هو الصناعة التي سأقبل عليها وأفرغ لها مدى الحياة.
وهي كما يبدو للقارئ أحلام متناقضة لا تربط بينها رابطة واحدة. فأين صاحب السيف من صاحب المحراث؟ وأين هذان من الناسك الزاهد الذي ألقى بكل سلاح واستغنى عن كل أداة؟
إلا أنه في الواقع تناقض ظاهر.
لأنني لم ألبث أن أعلم أن الأدب دون غيره هو الغاية المقصودة وراء كل حلم من هذه الأحلام، فلم أطرق بابًا منها إلا علمت بعد فترة وجيزة أنه باب موصل إلى الأدب من طريق بعيد أو قريب، وأنني أتجاوز كل باب منها إلى الباب الذي يليه.
العقاد العسكري:
لعبة الجيوش لعبة معروفة بين الأطفال في كل عهد وفي كل قرية: أطفال من «بحري البلد» يحاربون أطفالًا من «قبلي البلد» … أو أطفال هذا المكتب يحاربون أطفال المكتب الآخر. ثم يفخر المنتصر ويتحفز المنهزم، وتنشب المعارك دواليك بين الفريقين إلى غير سلام، لأنها كلها في الحقيقة سلام، وكلها لعب وصفاء في صورة جد وخصام.
لكن هذه اللعبة كان لها شأن خاص في إقليم أسوان قبيل انتهاء حرب الدراويش في السودان.
وكانت هذه الحرب تعنينا نحن الأطفال عناية خاصة، لأننا كنا نسمع أن الدراويش يطعنون الأطفال ويحملونهم على الحراب كلما دخلوا بلدة من بلاد الكفار … وكل أولاد الريف عندهم كفار، لأنهم لم يؤمنوا بالمهدي المنتظر، ولم يتورعوا عن قتاله في عقر داره.
فكانت أخبار حرب السودان عندنا شاغلًا لا ينقطع، نهتم بها لأنها تعنينا، ولا يرجع اهتمامنا بها إلى اهتمام الكبار، كما يهتم الصغار عادة بكل ما يشغل الآباء والأمهات.
وألفنا في المدرسة ثلاثة جيوش: جيش المصريين وكنت قائده، وجيش الدراويش وكان قائده صبيًّا سودانيًّا مات بعد ذلك غرقًا في النيل رحمه الله، وجيش الإنجليز وكان قائده صبيًّا رشحه لون وجهه وشعره للجنسية الإنجليزية … لأنه كان أشقر الوجه أصفر الشعر، في سحنة تشبه سحنة الإنجليز.
ونسمع في القصص الشعبية أن فرسان الحروب يتقدمون الصفوف وينشدون الأشعار تحديًا لمن ينازلونهم من فرسان الأعداء، ونحفظ بعض هذه الأشعار التي تروى تارة عن عنتر وتارة عن علي بن أبي طالب، أو عن سيف بن ذي يزن وعمرو بن معد يكرب، وغيرهم من فرسان العرب في الجاهلية والإسلام.
ولكن هؤلاء الفرسان ينشدون الأشعار فخرًا بأسمائهم وألقابهم وليس فيها ما يشبه اسمي ولقبي، فكيف أنشدها؟ وكيف أدعو الخصم المنازل إلى مبارزة علي أو عمرو ولست أنا مسمى بهذا الاسم أو بذاك؟
أنظم إذن شعرًا على لساني أنا لا على ألسنة أولئك الأبطال.
هل أستطيع؟
نعم قد استطعت حين حاولت، وطاب لي هذا الكشف الجديد فأكثرت من النظم في كل موقف، وتحدث التلاميذ بذلك في حصة اللغة العربية فاستنشدني الشيخ أبياتًا مما نظمت، فأصغى إليَّ في غير تشجيع لأنه خشي أن أشغل بهذه اللعبة عن دروسي، ثم قال لي:
«ألم تجد غير المبارزة موضوعًا تنظم فيه؟ … انظم في فائدة العلوم التي تتعلمها فهو أولى بك وأجدى!».
ولم أكذب الخبر … فنظمت أبياتًا في فائدة جميع الدروس التي كنا نتعلمها في السنة الثانية الابتدائية، ولا أزال أحفظ بضعة أبيات منها إلى هذه اللحظة وهي:
علم الحساب له مزايا جمة
|
وبه يزيد المرء في العرفان
|
والنحو قنطرة العلوم جميعها
|
ومبين غامضها وزين لساني
|
وإذا علمت لسان قوم يا فتى
|
نلت الأمان بعلم كل بيان
|
وكذلك الجغرافيا تهدي الفتى
|
لمسالك البلدان والوديان
|
وتعلم القرآن واحفظ آيه
|
فالنفع كل النفع في القرآن
|
يومئذ علمت أن إنشاد الأبيات هو المقصود من مواقف الفروسية، وأن مواقف الفروسية هذه لم تكن إلا قنطرة في الطريق.
العقاد المتصوف:
وكنت أقرأ كل ما يقع في يدي من الكتب الأدبية والدينية، ومعظمها من الطبعات القديمة التي يشتمل كل مجلد منها على أكثر من كتاب.
ووقع لي كتاب «رياض الرياحين في مناقب الصالحين»، وديوان عبد الرحيم البرعي في المدائح النبوية، وأشباه ذلك من الكتب والدواوين.
قرأت في مناقب الصالحين عن الأولياء الذين يمشون فوق الماء، والأولياء الذين يسخرون الريح ولا يحترقون بالنار.
فأردت أن أكون مثلهم! وترددت على المسجد في أوقات الصلاة، وكان مؤذن المسجد القريب من بيتنا رجلًا جميل الصوت حسن الأداء … أسمعه في الفجر أحيانًا وأسمعه قبل صلاة الجمعة كثيرًا، وأسمع القصائد الثلاث التي كان ينشدها قبل الأذان واحدة بعد واحدة في ذلك اليوم.
إن شعر البرعي لا يعجبني. فلماذا لا أنشد مع المؤذن قصيدة من نظمي؟
خطر لي هذا … وخطر لي أنني لو صارحت المؤذن بأنني صاحب القصيدة لم يقبلها ولم يفضلها على قصائده المختارة، فنظمت القصائد ونسبتها إلى هذا الشاعر تارة، وإلى ذلك الشاعر تارة أخرى، فإذا هي وفق رضاه، بل وفق رضى السامعين.
وكانت هذه تجربة أخرى عرفت منها أن صوغ الشعر هو الذي يعنيني من الولاية، وإنني إذا وفقت لنظم قصيدة مستحسنة لم أحفل بعد ذلك بتسخير الريح ولا بالمشي على الماء.
العقاد الزارع:
أما اتجاهي إلى علوم الزراعة فقد كانت له بواعث أخرى، يرجع بعضها إلى نشأتي في بلدة أسوان.
وكانت هذه البلدة معبرًا للطيور المهاجرة في أول كل ربيع، وأول كل شتاء، وكنت مفتونًا بمراقبة الطير عامة، والطير الذي ينتظم في هجرته جماعات جماعات على الخصوص.
كنت أرقبه في الهواء، وأرقبه على شاطئ النيل، وأرقبه في المزارع والحقول.
وكنت أقرأ أوصاف الطيور والبساتين في دواوين الشعر وكتب الأدب، وأهتم بالحيوان والنبات وبما يقال نظمًا ونثرًا في الحيوان والنبات.
وكانت علوم الزراعة تدرس يومئذ في ثلاث سنوات، فقلت لنفسي: لِمَ لا أتم دروسي في هذه المدرسة التي تعلمني عن الزرع والحيوان كل ما يشوقني أن أعلمه؟ ولِمَ أتمم دروسي في غيرها وهي أقرب من جميع هذه المدارس إلى هواي؟
ثم حالت الحوائل بيني وبين دخول هذه المدرسة، وتبينت شيئًا فشيئًا من قراءتي عن طبائع الحيوان والنبات أنني لا أقرأها لأتخذ منها صناعة أو عملًا، وإنما أقرأها لأشعر بها وأستطلع منها شعور الإنسان، وأهتم بها من جانبها الشعري وجانبها النفساني على الإجمال. كما قلت غير مرة أن هذه المخلوقات هي المسودة الأولى للخلق، وأن المسودة أدل في كثير من الأحيان على غرض الكاتب من التبييض الأخير.
فقنعت بهذا الجانب من طبائع الحيوان والنبات، ولم آسف كثيرًا على ما فات.
كذلك ضللت عن طريقي وكذلك اهتديت.
إلا أنني لا أحسبني كنت على ضلال بعيد في اتجاه واحد من هذه الاتجاهات.
فلا يزال في صناعة القلم عندي شيء من صناعة السيف.
ولا يزال بحث الدين وما وراء الطبيعة عندي شاغلًا لا يصرفني عنه شاغل من شؤون السياسة أو شؤون المعيشة.
ولا أزال أحس الشعر والشعور في كل ظاهرة حية وكل ظاهرة نامية.
وعلمت مرارًا أن الإنسان لا يضل عن نفسه طويلًا ولا يضل عنها بعيدًا، ولكنه يطرق الباب وهو يحسب أنه قد غلط في وجهته، فإذا به ينتهي إلى تلك الوجهة ولا ينحرف قليلًا حتى يعود فيستقيم.