تحدثت إلى حضراتكم في مقال سابق عن الحقوق والواجبات.
وكانت خلاصة الحديث أن الناس في عصرنا هذا يفكرون في حقوقهم كثيرًا، ولا يفكرون في واجباتهم إلا أقل من القليل. مع أن القيام بالواجبات هو السبيل الوحيد إلى إعطاء الحقوق؛ لأن حق الإنسان لا يضيع في أمة يؤدي كل فرد منها واجبه المفروض عليه. فإذا قمنا جميعًا بواجباتنا فلندع الحقوق وشأنها لأنها ستأتي إلينا حيث كنا بغير عناء.
حقيقة لا نظنها تحتمل الخلاف الكثير.
ولكن الأمور في مسألة الواجب لا تجري دائمًا على هذا النحو من السهولة والجلاء.
لأن الواجب لا يكون في جميع الأحوال شيئًا واحدًا مفهومًا متفقًا عليه.
ولو كان كذلك لهان أمره على كل راغب فيه.
ولكن المرء كثيرًا ما يرى نفسه أمام واجبات متعددة متناقضة يجمع بينها بصعوبة شديدة، أو يفرق بينها بصعوبة شديدة. وكلها واجبات مفروضة عليه ولا بد له من أدائها جميعًا، أو تركها جميعًا، أو الاختيار منها بين ما يؤديه وما يتركه، وكل حالة من هذه الحالات جهد جهيد.
كذلك يرى الإنسان نفسه في بعض الأحايين أمام واجب مبهم مشكوك فيه، لا يدري كيف يؤديه، ولا يدري كيف يتركه وهو مستريح الضمير.
أما الواجبات المتعددة فالأمثلة عليها كثيرة، نكتفي بالإشارة إليها ولا نحصيها.
فهناك الواجبات الكبيرة والواجبات الصغيرة: واجبات تتعلق بها مصلحة الأمة أو العالم، وواجبات لا تتناول إلا مصلحة فرد أو أفراد.
وهناك الواجب المعجل والواجب المؤجل، أو الذي يقبل التأجيل. وقد يصطدم هذا بالواجبات الكبرى في بعض الحالات، فإن انقاذ فرد واحد من الموت العاجل عمل ينفع فردًا واحدًا أو ينفع ذويه، ولكنه قد يقدم على الواجب الكبير الذي يمكن تأجيله إلى حين، وإن تعلقت به مصلحة أجيال.
وهناك الواجب الظاهر والواجب الخفي المحجوب عمن لا يعرفونه. وفي القرآن الكريم مثل قوي على هذين الواجبين كما يفهمهما نبيان صالحان فضلًا عما يفهمه سواد الناس. وقد سمعتم سورة الكهف مرات وسمعتم أن موسى الكليم عتب على الخضر عليهما السلام لأنه خرق سفينة وقتل غلامًا وأقام جدارًا لقوم بخلاء لا يستحقون المعونة. فقال له الخضر: ﴿هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴿٧٨﴾أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴿٧٩﴾وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴿٨٠﴾فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴿٨١﴾وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾.
وفي هذه الآيات الكريمة عظة بالغة لمن يريد أن يتعظ بها في حوادث الدنيا المستغربة من كبيرة وصغيرة فإن كثيرًا من الناس يلامون وهم معذورون، بل مستحقون للحمد والإعجاب، لأنهم يعملون الواجب ويكتمونه؛ تفضيلًا للسكوت الذي يجلب لهم اللوم على التصريح الذي يجلب لهم الثناء.
وهناك الواجبات الخاصة والواجبات العامة. فليس الواجب الذي ينهض به الأكفاء دون غيرهم كالواجب الذي ينهض به كل فرد من الأفراد أو ينهض به معظم الأفراد، وليس الواجب الذي ينتظر أهله القادرين عليه، كالواجب الذي يقدر عليه من شاء حيث شاء.
وهناك الواجب المحمود والواجب المكروه، فقد يوافق الواجب هوى الناس فيحمدونه ويعرفون فضله، وقد يناقض هوى الناس فيكرهون صاحبه ويعطلون عمله، وهو في الواقع أعظم من صاحب الواجب المحمود وأولى منه بالإعانة والتقدير.
هذه أمثلة نشير إليها ولا نحصيها كما أسلفنا، ومنها نرى أن الإنسان قد تواجهه في حياته الخاصة أو العامة واجبات متناقضة لا محيص له من التوفيق بينها فكيف نطالبه بالواجب إذا كان الواجب نفسه يأمره بما لا يطاع، لأنه يأمره بما لا يستطاع؟
في الأمر علة لمن يريد التعلل، وعذر لمن يريد الخلاص من جميع الواجبات.
إلا أنه تعلل معيب مكشوف السريرة، لأن الإنسان إذا تناقضت منافعه وشهواته لم يتركها جميعًا ولم ينفض يديه منها بأشباه هذه المعاذير. فلماذا يحتمل التناقض في الشهوات ولا يحتمل التناقض في الواجبات؟ ولماذا يريح نفسه من التوفيق هنا ولا يريح نفسه من التوفيق هناك؟
والواقع أننا نعرف المشكلة لنقول إنها مشكلة يجب ألا تخفى علينا، وإننا إذا عرفناها عرفنا أنها محلولة بطبيعتها، لأنها لا تواجه إلا من هو قادر على حلها أو التصرف فيها.
فالواجبات في الحياة الإنسانية على قدر أصحابها والمسؤولين عنها، ولن يكلف الله نفسًا إلا وُسْعها.
والواجبات الشائعة لها ملكات شائعة بين الناس تعينهم على أدائها، وهي في الغالب سلبية تتلخص في الكف عن الأذى والامتناع عن العدوان على الأرواح والأعراض والأموال، وما كان منها إيجابيًّا فهو لا يزيد على أن يحسن الإنسان عمله الذي بين يديه، ولا خفاء بالوسيلة التي تعين على إحسان الأعمال.
فالواجبات درجات.
والناس كذلك درجات.
والكبير هو الذي يحسن النهوض بالواجب الكبير، أو يقضي ما يقضي ويترك ما يترك، وهو مستريح الضمير.
واختلاف الدرجات في العلم، واختلاف الدرجات في الاجتهاد، واختلاف الدرجات في الرزق والمعاش من الحقائق الكثيرة التي تكررت في القرآن الكريم …
وهي آيات بينات، مصداقها ظاهر كل يوم بل كل لحظة، في كل فج من فجاج الحياة.
إن حمل الأثقال رياضة الأقوياء بالأجسام.
وكذلك حمل الفروض الجسام رياضة الأقوياء بالنفوس، ولعلهم يفرحون بالقدرة على مشكلاتها كما يفرح الرياضي الضليع باستخفاف الأعباء الثقال.
يفرح الضعيف بالإعفاء، ويفرح القوي بمضاعفة الأعباء. فليحمل كل منهما ما يستطيعه، لا فوق ما يستطيع ولا دون ما يستطيع. ومن أبرأ ذمته فلا جناح عليه.
وتعجبني أبيات جميلة للشاعرة الأمريكية «إلن هوبر» تقول فيها: «نمت فحلمت بأن الحياة جمال، وصحوت فرأيت أن الحياة واجب وجهاد. أكانت رؤياي إذن أكذوبة من أكاذيب الظلال والأطياف؟ … كلا. بل جهادًا أيها القلب الحزين وشجاعة في الجهاد. وإنك لعلى يقين أنك واجد ذلك الحلم حقيقة ماثلة لك في ضياء النهار … ».
وشاعرنا الكبير — أبو الطيب — يسبق إلى هذه الحقيقة بأسلوبه الفحل حيث يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
فإذا شكا الأقوياء من الواجب الكبير فعزاؤهم أنهم أقوياء، وإذا شكا الضعفاء من الضعف فعزاؤهم أنهم قليلو الأعباء.