من الوعود التي تضمنها خطاب العرش أن الحكومة قد عنيت «بتطهير سمعة الحكم مما علق به فقررت تشكيل لجنة وزارية لتحقيق المساوئ التي أُسندت إلى رجال العهد السابق». قال الخطاب: «ولقد أشرفت لجنة التحقيق على إتمام عملها وستعرض — على البرلمان — في القريب العاجل نتيجة تحقيقاتها وما يترتب عليها من المسئوليات».
وهو وعد كان منتظرًا في خطاب العرش عند أول انعقاد للبرلمان بعد انتخاب مجلس النواب، لأن البرلمان بمجلسيه هو المرجع الذي سيتولى الاتهام ويشترك في القضاء، ويجلس ثمانية من أعضائه في المجلس المخصوص الذي تعرض عليه قضايا الوزراء «يعينون بالقرعة» من بين أعضاء مجلس الشيوخ.
وينبغي أن يكون هذا الوعد منتظرًا باتفاق الآراء سواء من رجال العهد السابق أو ممن يوجون إليهم التهمة أو من غير هؤلاء وهؤلاء.
لأن المتهم الذي يرفض الفرصة الدستورية لعرض التهمة والدفاع عنها إنما يدين نفسه قبل أن يدينه خصومه، ويفصل في القضية باعتراف مفهوم لا تعوزه الدلالة وإن أعوزته الصراحة.
وإذا اتفقت الآراء على وجوب التحقيق ووجوب المحاكمة بعد التحقيق فليس هناك محل للاختلاف على وضع من الأوضاع الشكلية أو الجوهرية في الموضوع.
لأن تأليف المجلس المخصوص الذي ينظر في قضايا الوزراء قد أصبح الآن مستطاعًا بعد انتخاب مجلس النواب وانعقاد البرلمان بمجلسيه، فمجلس النواب هو الذي يصدر قرار الاتهام بأغلبية ثلثي الآراء، وهو الذي يعين من أعضائه من يتولى تأييد الاتهام أمام المجلس المخصوص. ثم يتألف المجلس المخصوص «من رئيس المحكمة الأهلية العليا ومن ستة عشر عضوًا: ثمانية منهم من أعضاء مجلس الشيوخ يعينون بالقرعة، وثمانية من أعضاء تلك المحكمة المصريين بترتيب الأقدمية، وعند الضرورة يكمل العدد من رؤساء المحاكم التي تليها ثم من قضاتها بترتيب الأقدمية».
ومن المستطاع الآن تأليف المجلس المخصوص على هذه الصورة التي نص عليها الدستور، ولا حاجة إلى انتظار قانون جديد لأن أحكام قانون العقوبات كافية في الجرائم المنصوص عليها فيه، فإذا استلزم الأمر إصدار قانون خاص لأحوال المسئولية التي لم يتناولها قانون العقوبات فلا اعتراض عقلًا ولا عدلًا على تضمين هذا القانون حكم الرجعة إلى ما قبل صدوره. لأن الرجعة هنا حكم لا مناص منه لتطبيق القانون، ما دامت الجريمة معدودة في الشرائع المتحضرة بين الجرائم التي تستحق العقاب.
على أننا نسمع من آراء بعض الثقات في هذه الشؤون أن محاكمة الوزراء أمام «مجلس مخصوص» إنما قصد بها — في الأمم الأوربية التي أخذت بهذا النظام — محاكمة الوزراء القائمين على مناصب الدولة لا محاكمة الوزراء المقالين أو المستقيلين …
لأن الوزير المقال أو المستقيل فرد من أفراد الأمة تختص المحاكم بالنظر في قضاياه كما تنظر في قضايا جميع الأفراد، ولا حاجة إلى إحاطته بضمان يمتاز به في التهم المنسوبة إليه لأنه لا يعرض أعماله لثقة البرلمان بعد اعتزاله مناصب الدولة.
ويقول هؤلاء الثقات أن الحكمة في تمييز الوزراء القائمين على المناصب بعرض قضاياهم على المجلس المخصوص أن ينفرد البرلمان بحق الثقة ونزعها وحق التبرئة والإدانة في محاسبته للوزارة … فلا يضطر الوزير إلى الاستقالة من منصبه كلما اتجهت إليه تهمة من التهم على لسان بعض الخصوم، ولا يقع في محظور البقاء في المنصب وهو متهم بما يمس السمعة والكرامة. وإنما يدان أمام البرلمان وحده ما دام مسئولًا أمامه عن أعمال وظيفته، ولا يحسن في هذه الحالة أن تتعدد المراجع التي تحاسبه على أعماله.
أما الوزير المقال أو المستقيل فلا موجب لتمييزه من سائر الأفراد ولا حاجة إلى تخصيصه بهذا الضمان.
وهو رأي له رجاحته وتقديره، وإن كان الرأي الغالب بين علماء الدستور المصريين أن مناقشات اللجنة التي وضعت دستورنا تعمم الحكم على جميع الوزراء سواء منهم القائمون على المناصب والمقالون أو المستقيلون.
وإذا ترجح هذا الرأي فالمجلس المخصوص هو صاحب القول الفصل في جرائم العهد الماضي مما يؤاخذ عليه الوزراء بنصوص قانون العقوبات أو نصوص القانون الذي يوضع للمعاقبة على المسئوليات الأخرى.
ويرد على الخاطر في هذه الحالة سؤال وجيه عن حيدة الأعضاء الذين يمثلون مجلس الشيوخ في هيئة القضاء.
فكيف يختار الأعضاء الثمانية من مجلس الشيوخ بطريقة القرعة وفيه من فيه من رجال العهد الماضي وخصومهم في السياسة والحزبية؟
إن القرعة قد تصيب أناسًا ممن تتجه إليهم التهمة وقد تسفر عن ثمانية كلهم من حزب الوزارة النحاسية وهو يتجاوز الخمسين عددًا بين الشيوخ الحاضرين.
كذلك قد تسفر القرعة عن ثمانية من أحزاب الحكومة المؤتلفة التي أشرفت على التحقيق.
ومن الجائز جدًّا أن تصيب القرعة شيوخًا من حزب الوزارة النحاسية وشيوخًا من الأحزاب الأخرى فتمتنع الحيدة المشروطة في القضاء بين هؤلاء وهؤلاء.
ولا بد من هذه الحيدة لاطمئنان الرأي العام إلى عدالة الحكم وتوفير الضمان للمتهمين.
ولا يقال أن الحزبية مفروضة في المجالس النيابية منذ وضع الدستور، لأن اختيار القضاة من الشيوخ لا من النواب يشير إلى اتقاء الحزبية في تشكيل المجلس المخصوص ولو بطريقة القرعة التي لا تمييز فيها. إذ كان مجلس الشيوخ هو المجلس الذي يشتمل على المعينين ويكثر فيه المستقلون، ولا تملك الوزارات حله ولا هو يملك الحق الفاصل في إسقاط الوزارات.
فالشأن في حيدة القضاء هنا كالشأن في حيدة جميع المحاكم والمجالس التأديبية، والأمر متروك للتقدير الذي يوجب على بعض القضاة أن يردوا أنفسهم ويبيح لبعض المتهمين أن يردوهم إذا لم يطمئنوا إليهم.
والذي نراه أن المخرج من هذا الإشكال واضح لا يصعب التفاهم عليه، وأن مصلحة الاتهام والدفاع معًا تقضي بالاتفاق على حيدة القضاء وتنزيه المجلس عن كل شبهة تخطر عل البال.
فلا النحاسيون يقنعون الرأي العام بصدق البراءة إذا كان لهم صوت معدود في المجلس المخصوص، ولا الأحزاب المؤتلفة تقنع الرأي العام بصدق الإدانة إذا كان لها صوت معدود فيه.
فالمخرج المعقول إذن من هذا الإشكال هو أن يتنحى الأعضاء الحزبيون جميعًا عن نظر القضية وأن تنحصر القرعة في الشيوخ المستقلين.
ومن الواجب كذلك أن يتنحى عن نظر القضية كل عضو مستقل بدا منه رأي يعتبر فصلًا سابقًا قبل عرضها على المجلس المخصوص.
ولا قول لقائل بعد هذا في صحة تشكيله من الوجهة الدستورية أو الوجهة القانونية أو الوجهة العرفية، وقد أحيط بكل هذا الضمان وتنزه عن جميع الظنون والأوهام.
بقي أمر الشركاء الذين تتجه إليهم التهمة مع رجال العهد السابق من غير الوزراء.
ووجود أولئك الشركاء في القضية مما يسوغ رأي القائلين بإحالتها إلى محاكم الجنايات، تسوية بين المتهمين في تقدير التهمة والعقاب، وأخذًا بحجة الثقات الذين يقصرون عمل المجلس المخصوص على محاكمة الوزراء القائمين في مناصب الدولة.
وهي مسألة فقهية لا تزال معروضة لبحث المختصين من خبرائها حتى يستقر البحث فيها على قرار.
ولكن المهم في البحث كله أن يطمئن الرأي العام إلى سير العدالة سواء صدر الحكم على الوزراء وشركائهم من هيئة واحدة أو من هيئات متعددة، وأنه لمطمئن إلى سير العدالة في محاكمة الوزراء بين يدي محاكم الجنايات أو بين يدي الهيئة العليا التي تحاط بما قدمناه من ضمان.
وأن الرأي العام لينتظر بملء الثقة إنجاز الوعد الذي أعلنته الحكومة في خطاب العرش بعد انتهاء لجنة التحقيق من مهمتها، لأن العدل حقيق أن يأخذ مجراه، وليس من العدل أن يدان صغار الناس لأنهم يقترفون أصغر الجرائم ثم يسكت القانون عن كبار الجرائم لأن المتهمين بها وزراء أو كانوا وزراء.