الكاتب: عباس محمود العقاد
الناشر: آخر ساعة المصورة
تاريخ النشر: 3 سبتمبر 1944
أنا واثق أنني قد استرحت نهائيًّا من سؤال الملكين!
لأن زملاء هذين الملكين الموقرين قد سبقوهما إلى كل سؤال يخطر على البال أو لا يخطر على البال، واستوفوا حصة عشرين مَلَكًا من ذوي الاختصاص في التحقيق والاستجوابات وكتابة المحاضر بين إخواننا الملائكة الموقرين!
ما هي أحسن ساعة؟ ما أهي ألعن ساعة؟ كم مرة أحببت؟ كم مرة ضحكت؟ كم مرة بكيت؟ كم مرة لم تضحك ولم تبكِ؟ من الشخص الذي لا تنساه؟ من الشخص الذي نسيته واذكر لنا ما نسيت من اسمه ومسماه؟
إلى آخر هذه الأسئلة التي برع بها زملاء منكر ونكير وزملاؤنا نحن … الصحفيون المتفننون.
وكل سؤال يجر إلى سؤال.
وإلى حضرات القراء المثال:
سُئلت: ما هي الأشياء التي تبكيك وتسوق الدموع إلى عينيك؟ فذكرت بعض الأشياء التي تبكيني وتسوق الدموع إلى عيني! ومنها سماع النائحات في مآتم الصعيد ولا سيما إقليم أسوان.
فإذا بهذا السؤال يجر إلى سؤال آخر، وهو:
– لماذا يبكيك سماع النائحات في مآتم الصعيد ولا سيما إقليم أسوان؟ وزاد السائل شيطنة من «شيطناته» المغرية أو المثيرة فقال: أهي عصبية إلى مسقط الرأس حتى في البكاء؟
ولا بد إذن من إجابة، وإلى حضرات القراء الجواب.
لا. ليست هي مسألة عصبية إلى مسقط الرأس، وإن كنت لا أنكر أنني أتعصب إلى مسقط الرأس، في كثير من الأحوال والأقوال.
وإذا أصر السائل «البارع» على اتهامه فأنا أتحداه أن يسمع نائحة من أولئك النائحات «المحترفات» ترتل أناشيدها الموجعة في مأتم إنسان كائنًا من كان — بشرط واحد هو ألا يكون ذلك الإنسان ممن يتمنى لهم الموت — ثم يملك دموعه بضع لحظات معدودات.
إن أصحاب الوقار في الصعيد الأعلى معروفون بالجلد البالغ الذي يتجاوز في بعض الأحيان ما يُحمَد من بني الإنسان، وربما كانت عشرتهم القديمة لبعض القبائل السودانية هي التي نقلت إليهم هذه المبالغة في الجلد والثبات أمام أعظم الخطوب وأوجع الآلام. فالرجل الشجاع في عرف بعض القبائل السودانية يُضرَب بالسياط وتتمزق بشرته من الضرب ولا يتململ أو يفتح شفتيه بآهة واحدة، والرجل من أصحاب الوقار في إقليم أسوان يموت له ابنه الوحيد في عنفوان الشباب ويخجل أن يُرَى في مأتمه دامع العينين أو منخوب الفؤاد.
ومع هذا يخاف هؤلاء «الأبطال» غواية أولئك النائحات العبقريات، ويهربون من أصواتهن الشيطانية لأنهم يحسبونها — بل يقولون عنها — أنها من وحي إبليس اللعين لامتحان صبر الصابرين.
كأنهم يأنفون كبرًا منهم أن ينهزم وقارهم أمام صوت امرأة باكية، ويأبون هذا الشرف على أحد من خلق الله أقل من إبليس اللعين، رئيس الملائكة السابقين، ثم رئيس الشياطين أجمعين.
وسر هذه الغواية الشيطانية بسيط:
سرها أن النائحة تتوارث صناعتها من قديم الزمن وتعرف بالوراثة والخبرة «الوتر الحساس» من النفس الموجعة فتدق عليه تارة في رفق محتمل، وتارة في إلحاح عنيف، حسبما تراه من مقتضيات الحال.
فهي «فنانة» موهوبة بلا جدال.
ومن تفننها في صناعتها أنها تنوح على كل ميت بما يناسبه ويحرك الأشجان عليه؛ فلا تتفجع على الشيخ بفجيعة الشباب، ولا على الرجل بفجيعة المرأة، ولا على الميت الذي لا ولد له بفجيعة الميت الذي له ولد كبير أو صغير.
وقد تخترع لساعتها ما يناسب فقيد اليوم في سنه وصناعته ومقامه ومزاجه والمأثور من عاداته وأزيائه، فتلهب الحزن عليه في مكامن الجمر الدفين، وتبرزه لهبًا ساطعًا لا تستطيع العيون أن تنثني عنه إلى الصبر والجمود.
وإذا أحست بوادر الحزن ظاهرة قوية وصلتها بالترديد والترجيع، فلا تفتر ولا تهدأ حتى تستنزف آخر قطرة من قطرات الدموع وآخر نفثة من نفثات الضلوع.
وكل ذلك في نغمة «مجربة» منذ مئات السنين، موفقة لطبائع السامعين، تكاد تنضح بالدمع واللهفة والأنين.
فإذا كان الفقيد من ذوي الجاه العريض والكلمة المسموعة في قومه صاحت النائحة في الجموع:
حطوا دراع السبع فوق بابه
|
إن طال غيابه يحسبوا حسابه
|
وتحس لوعة الأسف تشتعل في الصدور فتنفخ فيها من جديد بهذا الترجيع والترديد:
حطوا دراع السبع فوق الباب
|
إن طال غيابه يحسبو له حساب
|
ثم تنظر إلى أنداده وأقاربه وهم بين جموع المعزين فتهتف بهم صارخة:
يا ولاد عمو عدوا عمايمكم
|
عمامة نضيفة غايبة منكم
|
وتعود قائلة:
يا ولاد عمو عدوا العمايم زين
|
عمامة نضيفة غايبة في الصفين
|
وإذا كان الفقيد فتى في ريعان الشباب معروفًا بالأناقة والهندام صاحت النائحة:
ولا تدفنوا الغندور في الرملة
|
تتور العجاجة وتغبَّر الشملة
|
ثم ترددها بشيء من التصرف في النغمة والقافية:
ولا تدفنوا الغندور في الحيشان
|
تتور العجاجة وتغبَّر الشيشان
|
والشيشان جمع الشاش وهو نسيج العمامة.
فإذا كان للفتى الفقيد بنت صغيرة تركها يتيمة أشارت إليها النائحة وهو تقول:
ولا تسألوا إيش وخَّر الغندور؟
|
وخَّر بِنيَّه جناحها مكسور
|
ولها في كل حالة من حالات هذا الفقيد وأمثاله كلام تبدأه وتعيده حيثما تطلعت الأسماع إليه فإذا هو حسرة في الصدور وعبرة في الجفون.
وتقول في رثاء الفتاة التي ذهبت في سن الزواج:
صحوا العروسة وحضروا أحمالها
|
يوم السفر لم كان على بالها
|
وتعود قائلة:
صحوا العروسة وحضروا المنزل
|
زفَّة ترشِّي الملح لم ينزل
|
أو تقول وهي تخاطب أمها:
يا أم العروسة فين زغاريتك
|
صوت انطلق عالي حدا بيتك
|
وهكذا وهكذا لكل سن وكل حالة وكل مقام.
ولا شك عندنا أن النواح كان في مصر الوسطى فنًّا شائقًا محفوظًا، سواء كان نواحًا على الغير أو نواحًا على النفس، وسواء مات الميت حتف أنفه أو تعرض للموت في حادث متوقع.
فكما نذكر في أدب اللغة العربية الفصيحة كلمات لبيد أو أبي فراس يذكرون هناك كلمات يرددها المحتضرون ليلة الوفاة على اختلاف في الوزن والمعنى، ومنها قول القائل وأظن أن اسمه سلمان النابي:
يا أمي رقادي تعبكي
|
على فرشتي والوسايد
|
لمي أحبابك تعبكي
|
سراج النيابات قايد
|
واشتهر رجل من قطاع الطريق — يدعى «ود النخيلي» — بالبأس والجرأة يوم كان قطع الطريق ضربًا من الفروسية أو ضربًا من التحدي لسلطان الدولة. فعاث في الأرض واعتدى على الأقوياء والضعفاء ثم اعتُقِل وحُكِم عليه بالإعدام بعد كلام طويل للنيابة ودفاع طويل من المحامين فقال ينوح على نفسه:
قعد المحامي والسفيه قام
|
ودافعت على قد حيلي
|
حكموا عليَّ بالإعدام
|
خسارتك يا ود النخيلي!
|
وهو يشير إلى رجل النيابة بكلمة «السفيه» لأن المجرمين اصطلحوا على هذه التسمية لتعودهم أن يسمعوا من النيابة تعديد الذنوب وإحصاء المثالب التي تستحق العقاب.
وأمثال هذه المراثي النفسية كثيرة تجري في كل مناسبة ويأخذ منها كل محتضر بما يواسيه ويعزيه، إن كان للمحتضر عزاء.
وأظن أنني على صواب حين أقول إن أقاليم مصر الوسطى والعليا لا تتميز بمراثي النائحات والنائحين وحدها بل تتميز بالتعبير الاجتماعي حيث كان في الغناء والتنظيم الموزون. فما اشتغلت خواطر الأمة المصرية قط بأمر عظيم إلا ظهر التعبير الشعبي عنه في أغنية من أغاني الصعيد الأعلى لا تلبث أن تطوف أنحاء القطر من أقصاه إلى أقصاه، وقد تكرر ذلك بين الحرب الماضية والحرب الحاضرة في مناسبات متوالية أقدمها «يا عزيز عيني والسلطة خدت ولدي»، وأحدثها «سلم علي» وما فيها من الإشارة إلى الخزانات ومشروعات الري.
وجملة القول أن تلك الأقاليم الوسطى والعليا أقاليم «معبرة» لا تسكت عما يختلج في ضمائرها. وهي منذ آلاف السنين تترجم عن روح الشعب المصري في أفراحه وأحزانه فتحسن التعبير بالكلمات والأوزان وتقول الكلام الذي يسبق إلى الخاطر توًّا أنه خليق أن يصدر من قدماء المصريين، لو أنهم كانوا يعيشون معنا في هذه العصور.
تلك نفحات «طيبة» الخالدة وأصداء العرابة المدفونة التي لم تُدفَن تحت التراب، وهي هي الأقاليم التي تمثلت فيها خصائص الروح المصري الأصيل أحقابًا وأجيالًا قبل المسيحية والإسلام، ثم اصطبغ العصر الحديث كله على يديها بصبغة ذلك الروح القديم.
والذي نوده أن يستبقي التاريخ من تراث تلك الروح الخالدة بقاياها هذه التي تتردد الآن في أعلى الصعيد، وتوشك أن تندثر فترة بعد فترة وعامًا بعد عام، حيثما اختلفت العادات وتبدلت مراسم الحياة الاجتماعية.
فهل لها من سجل محفوظ قبل أن تضيع بضياعها مسحة من روح هذا الشعب العريق؟