في سنة 1934 — أي قبل الآن بعشر سنين بالضبط — أُبرِمَتْ معاهدة الصداقة والسلام بين ألمانيا وبولندة، وفحواها أن تدوم الصداقة والسلام بين الدولتين مدة مقدارها عشر سنين!
وقد تمت هذا اليوم هذه المدة المقدورة.
ولكنها لم تتم كما شاءت المعاهدة في صداقة وسلام بين الدولتين، بل تمت والعالم كله في حرب من جراء الاعتداء على بولندة!
هذه أكبر أضاحيك الحرب الحاضرة، ولكنها ليست كل ما في الحرب الحاضرة من الأضاحيك.
فقبل ابتداء هذه السنين العشر بفترة وجيزة عُقِد في جنيف أكبر مؤتمر شهده العالم منذ عُرِفَت فيه المؤتمرات الدولية. فحضره المندوبون من أربع وستين دولة، ووصلت إليه العرائض وعليها توقيع الملايين من أقطار الأرض بالدعاء والتأييد!
ذلك هو مؤتمر نزع السلاح.
وقد عرض عليه المندوبون العالميون سبعة وعشرين مشروعًا لنزع السلاح … لم يُقبَل منها مشروع واحد، ومنها المشروع المختصر الذي عرضه مندوب روسيا مسيو لتفينوف وهو يعلم أنه لن يُقبَل ولن يُلتَفَت إليه؛ لأنه يدعو إلى إلغاء صنع السلاح كله.
قال الفيلسوف الإسباني «مدارياجا» يومئذ يلخص أعمال المؤتمر الذي كان هو مندوبًا فيه: إن الطيور والحيوانات اجتمعت للبحث في نزع أسلحتها وتقرير قواعد الصداقة والسلام بينها. فاقترح الأسد على النسر أن يستغني عن مخالبه، واقترح النسر على الثور أن يستغني عن قرونه، واقترح الثور على النمر أن يستغني عن أظافره وأنيابه، وقام الدب أخيرًا فاقترح عليهم أن ينزعوا جميع هذه الأسلحة ويدخلوا معه في عناق حار يضم الجميع.
والدب كما لا يخفى هو الحيوان الذي يستعين بالعناق على غلبة خصومه، لأنه يعتمد على العضلات أكثر من اعتماده على الأظافر والأنياب.
وقد كانت هذه القصة محضرًا رسميًّا في الحقيقة لما جرى بمؤتمر نزع السلاح، لأن الدول كانت تقترح فيه نزع السلاح الذي يضايقها ويحمي خصومها من سلاحها. وكل ما فعله «مدارياجا» إذن هو أنه نقل محضر الجلسة الموقر من أسلوب الواقع إلى أسلوب الفكاهة والتمثيل.
ثم ابتدأت — وأصداء المؤتمر تتجاوب في أنحاء الدنيا — سلسلة الأعمال التمهيدية التي انتهت باشتعال نيران الحرب الحاضرة في جميع تلك الأنحاء، وأول حلقات تلك السلسلة إغارة اليابان على منشوريا دون إعلان حرب ولا إنذار بعداوة. ثم تلتها الإغارات من هذا القبيل والناس في كل أمة يتحدثون بالسلام، ويتواصون بالسلام، ويلعنون الحرب وينشدون أناشيد السلام …
حتى بلغ من «هوسة» السلام هذه أن جماعة اتحاد أُكسفورد أعلنت مقدمًا أن أعضاءها يعصون أمر الحرب ولا يجيبون الدعوة إلى حمل السلاح إذا صدرت إليهم في يوم من الأيام.
لماذا اشتعلت نيران هذه الحرب الجائحة؟
أسباب كثيرة لا تُحصَى!
لكن السبب الذي أذكره أنا في مقدمة هذه الأسباب هو ترجمة المثل العامي المعروف في بلادنا وهو «اللي يخاف من العفريت يطلع له!»
فأقوى أسباب هذه الحرب هو فرط الخوف من الحرب وكثرة الكلام في أمر السلام.
فلولا يقين هتلر وموسوليني وسماسرة الحرب في اليابان أن الدول الأوربية والأمريكية لا تحارب ولا تتحرك لرد العدوان، لما خطر لهم أن يجازفوا بوثبة من وثباتهم قبل أن يستعدوا عدتهم الكاملة بالذخيرة والسلاح.
وسبب آخر صغير يصح أن يُذكَر إلى جانب هذا السبب الكبير، وهو خوف الموت …
خوف الموت أوقع في وهم هتلر أنه محتاج إلى العجلة والسرعة لإنجاز مهمته التاريخية الكبرى التي أعده الله لها في هذه الدنيا … فقال في مؤتمر نورمبرج سنة 1935 «أنه لا يعلم متى يغمض عينيه ولكنه يعلم أن الحزب دائم حاكم، وأن الزعماء يظهرون ويختفون ولكن ألمانيا تعيش …» إلا أن أجله قد طال فقصرت آجال عشرات الملايين.
وهكذا ولِدَت الحرب الحاضرة من خوفين سخيفين: هما خوف الحرب في نفوس الجماهير، وخوف الموت في نفوس بعض الزعماء.
وأصبحت السنون العشر الأخيرات مقسومة إلى نصفين متعادلين: نصف في حرب واقعة، ونصف في تمهيدات عملية تنتهي إلى الحرب لا محالة، وإن كانت قد انتهت إليها على توقيع أبواق السلام.
* * *
لكن هذه السنون العشر ستُذكَر في المستقبل بأمور أخرى غير هذه الحرب العالمية ووقائعها وميادينها وأسمائها.
ستُذكَر بثلاثة عناوين أخرى لها آثار بعيدة المدى في تاريخ الإنسانية كلها.
سيُقال أنها سنوات الطيران، ويُقال أنها سنوات الطبقات المحرومة، ويُقال أنها سنوات الجنس والأحاديث الجنسية.
في هذه السنوات تقدم فن الطيران وبدأت مشروعاته الكبيرة التي ستغير حدود السياسة والتجارة والعلاقات الدولية في مدى السنوات القريبة التالية، وستجعل الدنيا بنية واحدة تحكمها أعصاب واحدة ولا يستطيع فريق منها أن يسعد على حساب الآخرين إلى زمن طويل.
أما الطبقات المحرومة فمما لا شك فيه أن الصيحة بإنصافها لم ترتفع في زمن من الأزمان كما ارتفعت في هذه السنين …
وليست هذه الصيحة مع ضخامتها وارتفاعها بالصيحة الجوفاء التي تذهب مع الريح، لأنها لا تصدر من عاطفة المروءة وحدها ولا من حب الإحسان وحده، ولكنها تصدر من العاطفة ومن الضرورة ومن دواعي المصلحة التي يشعر بها الأقوياء كما يشعر بها الضعفاء.
فإذا قيل أن هذه السنين العشر هي عصر القوة الغاشمة في هزيمتها فهي ولا شك عصر الطبقات المحرومة في انتصارها.
ولا ندري على التحقيق ما هي الوسيلة التي تنتصر بها هذه الطبقات المحرومة وتبلغ حقوقها.
غير أننا نعتقد أنها ليست وسيلة الشيوعية وحرب الطبقات، وإنما هي وسيلة الديمقراطية وتعاون الطبقات.
وبهذه الوسيلة الأخيرة ينال الفقير أضعاف ما يناله في ظل الشيوعية، لأنه ينال المعيشة الكافية وينال معها نعمة الحرية.
وأوجز سبيل إلى هذه الغاية المتمناة هو سبيل الضرائب على الثروات الكبيرة. فهذه الضرائب قد جعلت كبار الأغنياء في البلاد الأوربية كأنهم موظفون في مصانع الأمة ومزارعها يعملون لحسابها، لأن الذي يبقى لهم من مواردهم السنوية بعد أداء الضرائب المختلفة لا يزيد على مرتباتهم التي كانوا يتقاضونها لو أنهم كانوا موظفين في مصانعهم ومزارعهم لحساب الأمة كلها، وعلى هذه الوتيرة المعقولة نحقق ملكية الأمة للمرافق العامة والأعمال الكبيرة دون أن نلغي الحرية الشخصية والمنافسة الفردية التي هي مجال السبق ومناط المزايا الخلقية في الحياة.
* * *
أما الجنس والأحاديث الجنسية فهو سمة بادية على ملامح السنوات الأخيرة لا تخفى على أحد حيثما قلب النظر إليها.
الفلاسفة يبدعون «النظريات» المتناقضة في أسرار الجنس ومبلغ سلطانه على الشيوخ والأطفال والنساء كما يقولون اليوم في أسلوب البلاغات الحربية!
والصحف تتسابق في نشر الصور المغرية والقصص المثيرة والقضايا المشحونة بمساجلات الغرام والفضيحة.
والصور المتحركة تعرض أجسام النساء التي يشتهيها الرجال وأجسام الرجال التي تشتهيها النساء.
والمسارح لا تخلو قصة من قصصها الشائقة المحبوبة من مواقف الغزل والشهوة.
ورجال الدين يديرون مواعظهم على موضوعات كثيرة تنتهي إلى موضوع واحد وهو موضوع التهتك وغواية المجامع والأزياء.
والشركات التجارية تعلن عن بضاعة لا علاقة لها بالمرأة من قريب ولا بعيد فإذا هي تبرزها للناس في صورة غانية خليعة.
ولم يسبق لعصر من العصور أن تَهوَّس بالجنس ومسائله كهذا التهوُّس المعيب.
والجنس مع هذا قديم والاشتغال به مع هذا قديم، وليس فيه قط من جديد غير الذي عرفه الإنسان والحيوان من قديم …
فما سر هذا الاهتمام الجديد؟
سره شيوع الصور المتحركة وشيوع القراءة وشيوع التمثيل، وشيوع الاستغلال التجاري لهذه المخترعات كما لاحظ بعض النقاد الاجتماعيين.
فالحديث عن الجنس لم يكن قط تجارة رابحة ذائعة كما كان في هذه السنوات الأخيرة.
وضرر هذه التجارة عظيم.
ولكن الأضرار العظيمة تصحبها الفوائد العظيمة في كثير من الأحوال. ومنها على ما نرجو هذه الحال …
فكما يمتليء صدر الإنسان بالهم اللاعج أو الفكر الشاغل فيستنفده بالكلام حتى يتطاير كالبخار في الهواء، كذلك هذه الضجة الجنسية ستعلو وتعلو حتى تستنفد هذا الشاغل الجديد وترجع بالعقول والعواطف إلى سواء الفطرة المستقيم.
وأعتقد أن الدعوة إلى «العصمة» ستأتي هذه المرة من جانب المرأة الحديثة قبل الرجال.
لأنها ستشعر لا محالة أن الكلام المكشوف يرخصها ويضعف الشوق إليها، وأن قليلًا من «الأسرار» أو قليلًا من السكوت يرفع سعرها ويعلق بها رغبة الفضول إن لم يعلق بها رغبة الفضيلة.
* * *
وسيكتب أناس ما يكتبون غدًا عن المسافة الطويلة أو القصيرة بين هذين الرقمين «1944–1954».
فإن كتبوا أن تلك السنين قد أنصفت الفقير ولو بعض الإنصاف، وقد صححت هوسة الجنس وهوسة السلاح؛ فتلك السنون تستحق كل ما بُذِل في سبيلها من بحار الدماء ومن بحار المداد.