كل رحلة إلى بلد من بلدان العالم لها «دليل سياحة» أو كتاب جغرافية يخبرنا عن الصغير والكبير من شئونها، ويتداوله الألوف وإن لم يكن في نيتهم الذهاب إلى ذلك البلد في وقت من الأوقات.
والعالم الآخر …
العالم الآخر مع هذه الملايين التي ذهبت إليه، ومع هذه الملايين التي ستذهب إليه … ليس بين أيدينا «مؤلف» واحد عن سياحاته ورحلاته وأعاجيبه ومشاهداته، ولم يخطر لسائح واحد من زواره أن يطرفنا بأخباره ولو من طريق الإملاء والإيحاء.
سعداء جدًّا ولاشك أبناء هذا العالم الآخر!
وأشقياء جدًّا ولا شك أبناء هذا العالم الآخر!
سعداء جدًّا لأن السعداء لا يفكرون في أنفسهم ولا في غيرهم، وأشقياء جدًّا لأن الأشقياء لا يفكرون في شيء غير ما هم فيه.
… فإن لم تشغلهم السعادة أو الشقاء عن أهل الأرض — وهم أقرباؤهم وأصدقاؤهم — فلهم حال لا نعلمه ولا يعلمه أحد، وهكذا يكون الغيب حتى نراه.
يظل كل غيب غائبًا عنا حتى نحضره ونراه، ولكننا نتصور المجهول على صورة من الصور، وهذا هو العالم الآخر كما أتصوره أو كما أتمناه على التعبير الأصح.
النعيم:
في فرع النعيم من العالم الآخر يتمتع السعداء بأحلامهم ويذوقون ما يحبون من اللذات وأنواع «الترفيه» … بعد الجهاد الطويل.
واللذات التي تستحق الحياة عندي هي: الإبداع الفني، والجمال، والحب المستجاب، أو الحب المتبادل بعبارة أخرى.
فلا يوجد في الدنيا ولا في الآخرة مكان يخلو من هذه اللذات الثلاث ويستحق أن يعلق عليه عنوان «الجنة» أو «الفردوس» أو «النعيم» وإذا علق عليه شيء من هذا القبيل فهو خطأ في العنوان.
وقياسًا على هذا أتصور، أن المقربين في عليين يوزعون أوقاتهم بين هذه اللذات الثلاث: يبدعون الجمال أو ينظرون إليه أو يسمعونه أو يمثلونه هم أنفسهم في صورة من صوره الكثيرة، ويحبون ويعلمون أنهم محبوبون، وينظرون ويستمعون ويلمسون ويذوقون، ويقولون: هذا حسن! هذا جميل … كما قال الخالق في أول سفر التكوين.
وإذا تعبوا من الاستحسان، وتعبوا من الحب، وتعبوا من الإبداع، فأجازة صغيرة يقضونها في الفرع الآخر — فرع العذاب والشقاء — تريحهم من هذا التعب، وتفتح لهم شهية النعيم، أو قابلية النعيم على القول الصحيح في ذوق اللغويين.
ويخيل إليَّ أن الله سبحانه وتعالى لن يأبى على عباده الصالحين نصيبًا أوفى وأكمل من نصيبهم في الإبداع الفنى كما عرفوه على هذه الكرة الأرضية.
إنه سبحانه وتعالى قد سمح لهم بإبداع الصور والأشكال، وإبداع الأصداء والأقوال — وهم على الأرض يعيشون في هياكل أبناء الفناء.
إنه علمهم بذلك قبسًا من شعور الخلق، فأخرجهم ساعة قصيرة من ثياب المخلوقين الفانين إلى ثياب الخلق والخلود.
فإذا ترقوا إلى العالم الآخر …
إذا ترقوا إلى السنة الثانية في هذه المدرسة الإلهية فهذا النصيب لا يكفي ولا يغني عن طلب المزيد.
وهنا يتسع مجال المزيد من صناعة الخلية الصغيرة التي تتميز بأبسط مظاهر الحياة — إلى صناعة دكتاتور مخدوع يظن كذبًا وجهلًا أنه لم يخلق مثله في البلاد.
وهذه قدرة تستعار في تحقيق برنامج الفرع الآخر — فرع العذاب — كما سنبينه بعد قليل.
العذاب:
والذين يذهبون إلى فرع العذاب لماذا يذهبون إليه؟ هذا السؤال ضروري جدًّا لتنظيم البرنامج هناك، أو لتقسيم أنواع العذاب بالعدل والإنصاف على حسب الكفاءة والاستحقاق، وبغير محسوبية ولا محاباة في جهنم الحمراء.
يذهب الناس إلى جهنم لأنهم أساءوا إلى أنفسهم، أو لأنهم أساءوا إلى أفراد من خلائق الله، أو لأنهم أساءوا إلى تلك الخلائق بالجملة، سواء حسبت هذه الجملة بالمئات أو بالألوف أو بالملايين!
وليس من الإنصاف أن «يعالجوا» كلهم بنوع واحد من العذاب، ولا أن يُحشَروا كلهم في طبقة واحدة من النار.
فالذين أساءوا إلى أنفسهم يكفي في عقابهم أن يُحرموا بعض المشتهيات كلما مرت بهم وتشوقوا إليها … لأن مصيبتهم الكبرى في حياتهم أنهم كانوا عبيدًا لشهواتهم وكانوا لا يحرِّمون شيئًا على أنفسهم. فبالكيل الذي كالوه يُكال لهم.
والذين أساءوا إلى أفراد معدودين من خلائق الله، ترد إليهم هذه الإساءات بعينها، ويتولى عقابهم أولئك الذين أصابوهم بالألم والإيذاء: ضربة بضربة وكلمة بكلمة، ومصيبة بمصيبة.
حتى الخلائق العجماء بلا استثناء …
فالرجل الغليظ البليد الذي ضرب حمارًا مسكينًا لأنه تعب بحمله الثقيل، ينهض هو نفسه بذلك الحمل الثقيل، ويؤتى له بذلك الحمار المسكين يضربه ويسوقه على ملأ من الناس والحمير.
والمرأة التي عذبت القطة بالجوع، تتلقى غذاءها اليومي من تلك القطة بعينها، وتجوع ولا تُرحَم من الجوع.
وهكذا وهكذا إلى آخر هذه السيئات التي تصب على رؤوس الخلائق البكماء، ويومئذ تعطى اللسان مرة لتقوم بدور الاتهام والقصاص.
أما الذين يسيئون إلى الدنيا بالجملة، ولا سيما جملة الملايين، فعقابهم أن يدفعوا العوض للإنسانية من جهودهم الشخصية بغير مساعدة خارجية.
فمن أضاع على بني الإنسان عملهم في التعمير والإصلاح مائة سنة، لا يترك لمحة عين حتى يؤدي بشخصه وبمفرده، كل ذلك العمل الضائع ليعيده إلى مثل ما كان عليه.
ومن أذاق الملايين آلام اليتم والفاقة وفقدان الأحباب والأعزاء يذوق هو وحده تلك الآلام جميعًا مصبوبة في كأس واحدة، ويمنح النعمة التي فقدها في الحياة وهي نعمة الإحساس؛ ليتعذب وهو شاعر، جزاء له بتعذيب الناس وهو مجرد من الشعور.
وأغص الغصص عند هؤلاء المجرمين الكبار هي الهوان والإذلال، لأن مصيبتهم الكبرى أنهم يحبون هوان الناس وإذلالهم، ليتسنى لهم أن يتكبروا وينظروا إليهم نظرة الأرباب إلى العبيد؛ فمن هذه الغصة فليتجرعوا كثيرًا.
ولتملأ كؤوسهم من غصص «العبيد» الذين أذلوهم وتجبروا عليهم، حتى يشبعوا. إن كانوا يشبعون.
وهنا تنفع «هواية» الخلق التي يتعلمها الأبرار في عليين.
فمن آونة إلى أخزى يُستَدعى هواة الخلق من السماء ويُقال لهم وأولئك الجبابرة يسمعون ويبصرون:
هذا المخلوق المخدوع طالما حسب نفسه من الآلهة فعرفوه قدره، واصنعوا مثله الآن في الحال: واحد جنكيز خان! واحد حمار! عشرة نابليون! خمسة فيران! عشرين هتلر …
وهكذا وهكذا إلى آخر هؤلاء الجبابرة: جبابرة الدماء والخراب، ليذوقوا الهوان. وليس بعد هذا هوان.
وعلى هذا المثال أتصور العالم الآخر بفرعيه فمصيب أنا أو مخطئ؟