لا نريد أن نذهب بعيدًا عن «القافلة» في هذا المقال. وسنرى إننا نستطيع في حدودها، أن نلم بموضوع، من أجلِّ موضوعات التاريخ، بل هو أجلها جميعًا، لأنه يتناول الكلام على الديانات الكتابية الثلاث، وعلى الرسل الكرام، الذين بعثوا بالدعوة إلى الهدى في هذا العالم، ولم يظهر لدعوتهم فيه نظير، منذ كان، إلى هذا الزمان، وإلى آخر الزمان.
يتساءل علماء المقارنة بين الأديان، في حيرة شديدة: ما بال الديانات الكتابية، لم تظهر لها دعوة في غير السلالة السامية؟ وما بالها، لم تظهر في بلاد غير البلاد العربية، إذا أطلقناها على نطاقها الواسع، من اليمين إلى أطراف وادي النهرين وبادية الشام؟
لماذا لم تظهر دعوة كهذه الدعوة في الهند، ولا في الصين، ولا في الأقطار الفارسية القديمة، ولا في أرجاء وادي النيل، ولم تظهر دعوة مثلها بداهة، في جوانب القارة الأوروبية، منذ كانت مطوية في مجاهل التاريخ، إلى أن طوت حولها تاريخ القارات، أو تكاد؟
ما بال السلالة السامية، قد انفردت بهذه المزية، التي تقاصرت دونها المزايا، في كل ما وعته هذه الدنيا الواسعة العريقة، من الدعوات والنهضات؟
ففي الهند والصين، ظهر النساك والمعلمون، من أمثال «بوذا» و«كنفشيوس»، ولم تظهر لهم رسالة يدعون إليها، كهذه الرسالات الدينية، التي دعا إليها إبراهيم، وموسى، والمسيح، ومحمد، عليهم السلام.
وفي وادي النيل، ظهرت الكهانات من المحاريب، أو ظهرت مراسيم الدولة من أخناتون، ولم تظهر رسالة نبوية على ذلك المثال.
وكذلك كانت القارة الأوروبية، وكان غيرها من القارات، فيما وعيناه من خبرها القديم أو الحديث.
ما سر هذه المزية العجيبة، في تاريخ بني آدم وحواء؟ ما تفسيرها، فيما ندركه من حكمة الله، وفيما تعرضه لنا الحوادث، من مقادير خلقه، وآيات قضائه وتدبيره؟
سرها فيما اهتدينا إليه «مدينة القافلة» أو مدن القوافل، التي لم يتكرر لها مثال في تاريخ العالم.
وسر هذه المزية، أن «مدينة القافلة»، وسط بين الحاضرة والبادية، تخالف الحاضرة والبادية معًا في محاسنها، كما تخالفها في مساوئها، وتستعد — من ثم — استعدادًا خاصًّا، لتلقي الرسالة الدينية، على نحو لا نعهده في بيئة الحضارة، ولا في بيئة البداوة.
قوام بين هذا وذاك.
فالحضارة، تقوم فيها الدولة، بتنظيم القانون وسياسة المجتمع على التحريم والتحليل، وإقامة الآداب على قواعد الثواب والعقاب.
والبداوة، تقوم فيها المحرمات والمباحات، على الثأر، والجزاء من جنس العمل، و«يد كل إنسان فيها على كل إنسان، ما لم تدفعه يد للحماية والوقاية، أقوى من يد العدوان».
قانون الدولة في الحضارة، وقانون العصبية في القبيلة … هذا هو دستور الأمم الحضرية، ودستور الشعوب البدوية، في أمور الحلال والحرام، والمعروف والمنكر، على التعميم.
أما «مدينة القافلة»، فلا يحصرها قانون الدولة، ولا تحصرها عصبية القبيلة، لأنها ملتقى أمم كثيرة، وملتقى طوائف شتى، من الأمة الواحدة. وهي على هذا، تدين لكل عصبية عابرة، ولا تستغني عن العرف، الذي تخضع له جميع العصبيات، فيما اشتركت فيه من ضروب المعاملات والعلاقات.
وإذا نظرنا إلى مدينة القافلة، من ناحية الحسنات والسيئات، وجدنا لها نموذجًا خاصًّا من الحسنات، ونموذجًا خاصًّا من السيئات، لا تجتمعان جنبًا إلى جنب، في حاضرة ولا بادية.
وربما استطعنا أن نلخص حسناتها الخاصة، في بضع كلمات، وهي «رابطة الميثاق على القرب والبعد».
وربما استطعنا كذلك، أن نلخص سيئاتها الخاصة، في بضع كلمات مثلها، وهي «فرصة اللهو في عرض الطريق».
فالإيمان برابطة الميثاق، ضرورة لا محيص عنها، لأناس متفرقين، يجتمعون من كل صوب، ويتعاملون من العام إلى العام، أو من الموسم إلى الموسم، ويحملون الدين، ويتعهدون بالوفاء، وهم أشتات من هنا وهناك، لا يخضعون لحكومة واحدة، ولا يلوذون بعصبية مشتركة، ولا يستغنون عن تبادل الصفقات، على الوعد والسمعة، بل على الإشاعة والمجازفة. فإن لم يكن ثمة إيمان «بالميثاق» لم تكن ثمة معاملة منتظمة، في مدينة لا دولة فيها، ولا عصبية تغني غناء الدولة.
وأما المساوئ التي تجمعها «فرصة اللهو في عرض الطريق»، فلن يخلو منها مكان، يلتقي فيه إخوان الطريق، وشذاذ الآفاق، بلا اكتراث للرقابة من أعين الأهل والعشيرة، أو من أحكام الجيرة وأبناء الجيرة، وكل منهم يريد أن يطرح أعباءه عن كاهله، ويسترسل على هواه، في الساعة التي يطرح فيها الأعباء عن كاهل مطاياه.
هنا عهد وثيق، وإلى جانبه هوى طليق.
ولا تخلو مدينة القافلة على هذا كل الخلو من عرف الحضارة، ولا تخلو كل الخلو من حماسة العصبية. فلا جرم كانت بيئة لا بيئة مثلها، لتلقي الدعوة من ذي رسالة، ينادي بالإيمان وينكر اللهو والفساد، ويذكر الناس بالإله القادر عليهم، وهم مقيمون أو مترحلون، والناظر إليهم، وهم شاهدون أو غائبون، والعالم بحقهم وجزائهم، حيث لا حماية من دولة، ولا حماية من عصبية، وإنما هي حماية القادر العليم، والرقيب العتيد، في الحل والترحال وفي المشهد والمغيب.
وليس من مجرد المصادفة إذن، أن يقترن تاريخ الدعوات الدينية، في رقعة الجزيرة العربية، بتاريخ «أور» و«بيت المقدس» و«مدين» و«الحجر» ومدائن سينا، ومدينة الكعبة، في ابان حركة القوافل بين الشرق والغرب والجنوب والشمال.
وليس من مجرد المصادفة، أن تأتي الدعوات في هذه الرقعة من الأرض، يوم كانت هي الرقعة الوسطى من العالم المعمور، ولم يكن وراءها ميدان لتوجيه الدعوة إلى بني الإنسان، في أمة من أمم الحضارة، تنتقل منها الدعوة إلى سائر الأمم.
كلا! ليست هذه مصادفة عارضة، من مصادفات الموقع، أو مصادفات الحوادث والأزمنة. ولكنها هي التوفيق، الذي تتجلى فيه حكمة الله، كلما اختار لخلقه منهجًا من مناهج الهداية، ينساقون إليه على علم، أو على غير علم، وعن رضى منهم، أو عن اضطرار.
ونحن نعلم الكثير عن سير الأنبياء، الذين تولوا أكبر الأمر، في دعوة الأديان الكتابية، وهم إبراهيم، ويعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمد، عليهم صلوات الله. فكلهم نشأ في مدينة من مدن القوافل، وكلهم سار في قافلة أو جهر بالدعوة على مدرجة القوافل المطروقة.
ولا نعدو الحقيقة إلى المجاز، حين نوغل في القدم، إلى أيام نوح عليه السلام. فما كانت سفينة نوح، في رحلتها الناجية، غير «قافلة بحرية»، تحمل معها ما تحمله القافلة، من متاع وعتاد، ومن ركاب وأزواد. وما كان لنوح — قبل رحلة السفينة — من وطن، غير تلك الأوطان، التي تجول فيها القوافل، مجالها من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
والأنبياء الذين نجهل الخبر المفصل من سيرتهم، نعلم ما ورد عنهم في القرآن الكريم، فنعلم أنهم كانوا يخاطبون أناسًا، يعيشون من التجارة، ويقومون على طريق القوافل، بين كنعان والحجاز وسيناء.
ومن أولئك الأنبياء، النبي شعيب، الذي نعلم من القرآن الكريم، أنه قال لقومه: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان» وأنه قال لهم: «ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين».
وقصة شعيب مع قومه، كقصة هود، وصالح، وذي الكفل، وسائر الأنبياء، من المذكورين في الكتاب بالدعوة والخطاب.
وقصة الهداية الإلهية إذن، هي قصة القافلة الإنسانية، في رحلتها الخالدة، تقودها يد الله، وتمضي بها مع الزمن على سنته، كلما تطلعت إلى هداه.