ومصر الآن أوضح الدول عذرًا من تصحيح موقف هذه الجامعة وإعادة النظر في أمرها.
هي أقل الدول غرضًا من الجامعة، بل هي لا غرض لها في منفعة خاصة تجنيها من ورائها، لأن العرب جميعًا يعلمون كما تعلم مصر أنها لم تتطلع إلى شبر واحد من الأرض تضيفه إلى بلادها ولا إلى غنيمة مادية تنفرد بها.
وهي أقل الدول حاجة إلى الجامعة في الدفاع عن نفسها، لأنها تستطيع أن تعتمد على موارد العدد من أبنائها، وموارد العدة من ثرواتها ومركزها.
وهي أكبر الدول عبئًا في الجامعة، لأنها تنهض وحدها بنحو النصف من نفقاتها فضلًا عن الأعباء الأدبية والأعباء الأخرى التي لا يحصيها سجل النفقات.
أما عذرها اليوم — إذا هي أعادت النظر في أمر الجامعة فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير أو قليل من التوضيح.
فقد تُرِكَتْ وحدها في الميدان أمام الصهيونيين ومن يعاونهم خفية وجهرة من الدول الأوروبية والأمريكية.
ولم تترك خطأ في مرة واحدة. فيقال أنه خطأ لا يتكرر أو أنها غلطة يسهل تفسيرها.
بل هي قد تُرِكَت وحدها عمدًا مرة بعد مرة، وظهر الإصرار على تركها من مسلك بعض الدول، وتجاوز الأمر الإصرار إلى الشماتة بها والتهليل لكل إشاعة من إشاعات الانتصار عليها …!
وقيل في تعليل ذلك الترك ما لو صدقناه — على علاته — لكان هو أدعى الأسباب إلى إعادة النظر في المسألة بحذافيرها.
قيل أن شرق الأردن تطمع في فلسطين وسورية. وقيل أن سورية لم تستطع أن تحرك جيوشها لأنها تخشى من انقضاض شرق الأردن عليها.
وهذه الأسباب — إن لم تكن هناك أسباب غيرها — كافية للنظر من جديد في تكوين الجامعة وفي برنامجها وفي الأغراض التي ترجى منها.
ولقد كانت حرب فلسطين هي النار التي محصت معدن هذه الجامعة وكشفت عن كل ما له من القيمة.
وليس أصلح من النار لتمحيص معادن النفوس ومعادن الأشياء.
فنحن نعلم اليوم أن الجامعة العربية قد تنفع في تبادل المعونة في المجالس الدولية.
ونعلم اليوم أنها قد تنفع في تبادل المعونة الثقافية، أو تحسين العلاقات الاقتصادية، وأنها قد تنفع — إلى حد محدود — في الوساطة بين أعضائها كلما نشب خلاف بينهم على بعض المنازعات السياسية …
ولكن منافعها جميعًا تقف عند هذا ولا تتعداه.
فإذا وصل الأمر إلى الحرب أو ما ينذر بالحرب فليس في وسع مصر أن تعتمد على قرار غير قرارها أو على قوة غير قوتها المصرية التي تملك زمامها.
وعلى هذا يجب النظر من جديد في شأنها مع الجامعة العربية للموازنة بين هذه الأغراض وبين الأعباء التي ننهض بها أو تنهض بها أمة أخرى.
فليس من المعقول أن نعمل ما يفيد غيرنا ويضر العرب جميعًا ويضرنا نحن في الطليعة باسم الجامعة العربية.
وقد رأينا أن دخولنا فلسطين قد أنقذ «شرق الأردن» خاصة من سطوة الصهيونيين عليها بعد الإغارة على فلسطين من أقصاها إلى أقصاها.
فإذا (ببعضهم) يطيق الصهيونيين ولا يطيقنا، وقد يبدو ذلك مستحيلًا لولا وقوعه أمام أعين الناس وأمام أعيننا، وقد يبدو عجيبًا بعد وقوعه وانتفاء كل شك فيه.
ولكنه في الواقع غير عجيب أو غير مختلف عن المعهود بين الحاسد والمحسود.
فإن (بعضهم هذا) يحسد مصر ويكره الصهيونية ويخشاها، وما زال الحسد حيث كان أقوى من الكراهية. فربما أطاق الحسود من يكرهه ويخشاه. ولكنه لا يطيق من يحسده ويرجوه.
وليس من شأننا بعد اليوم أن نحمي أحدًا من الصهيونية التي يطيقها وهو مهدد بها ولا يطيقنا وهو معتمد علينا.
ولقد قال صديقنا الأستاذ المازني صوابًا حين قال: «إننا أصبحنا أمام حقائق ثقيلة».
ولكننا لا نقره على قوله «إننا حاربنا وانتصرنا وضحينا عبثًا».
وحسبنا أن نسأل هنا سؤالًا لا اختلاف في الجواب عليه، وهو: «ماذا كان يحدث لو أننا لم ندخل فلسطين؟»
كان (بعضهم …) يصبح بطلًا ونصبح نحن الخونة للقضية العربية! وكان أيسر ما يقال أن مصر هي التي خيبت الآمال ومكنت للصهيونية في جميع بقاع فلسطين! وأن أولئك ومن جرى مجراهم معذورون غير ملومين …
وتلك دعاية مسمومة لا تؤمن عقباها في الشرق كله وبين المصريين خاصة، ويزيد عليها بقاء الحقائق مجهولة وإقامة الخطط في السياسة العربية بعد اليوم على خطأ وتضليل.
فليس من العبث أننا عرفنا «الحقائق الثقيلة» ووضعنا كل تبعة على عاتق المسؤول عنها، وأقمنا سياسة المستقبل على الواقع الممحص الذي لا مغالطة فيه، وعرفنا أنفسنا وعرفنا غيرنا وخرجنا بسمعتنا نقية سليمة من الظن والتشكيك.
وليس في عمل من أعمال الدول ما هو خير وأجدى من عمل تؤدي به واجبًا وتستفيد به تجربة وتحفظ به سمعة وتتقي به دعاية سيئة، وقد تحقق لنا ذلك كله فيما عملناه لفلسطين وللجامعة العربية.