من أول الواجبات على كل مصري في هذا العصر أن يغلق منافذ التغرير التي ينفذ منها بعض ذوي الأغراض إلى رؤوس الناشئة فتندفع إلى الخطأ وسوء التقدير.
ومن أخطر هذه المنافذ قول القائلين أن الجيل الماضي كله جيل متهم مقصر لأنه هو الجيل الذي عاصر عهد الاحتلال …
وهو قول ساقط بنفسه لا يحتاج من أحد إلى علم بما تم على يد الجيل الماضي ليعلم بطلانه وتجافيه عن الحق والإنصاف.
فليس في وسع مصري أن يأخذ بهذا القول الساقط، لأنه يشمل بالاتهام كل صاحب دعوة وطنية ظهرت في هذه البلاد، ويكفي أن نذكر هنا أن سعد زغلول عاصر عهد الاحتلال، وأن مصطفى كامل نشأ ومات في عهد الاحتلال …
ولو لم يكن هذا هو الواقع لكانت تلك التهمة واضحة البطلان بغير حاجة إلى مراجعة التاريخ القريب … إذ من هم الجيل الذين يستحقون الحمد والاعتراف بالفضل إن كانت الأجيال التي تعاصر السطوة الأجنبية أهلًا للمذمة والاتهام؟
أهم الجيل الذين ظهروا بعد زوال الاحتلال ولا فضل لهم في زواله؟ أهم الجيل الذين يفتحون أعينهم على الدنيا أحرارًا فيكون أول أثر من آثار حريتهم أن يتوجهوا إلى الذين جاهدوا الاحتلال وأعطوهم هذه الحرية فيقذفوهم بالتهمة والمسبة ويجزوهم على فضلهم بنكران الجميل؟!
إن هذا كلام لم يُسمع بمثله في أمة من الأمم، ولا يقبله سامع له مسكة من الخلق والفكر المستقيم؛ وأدل منه على جهل الحقائق أن يقال أن الجيل الماضي لم يصنع شيئًا في مكافحة الاحتلال وتثبيت حقوق الاستقلال.
فمثل هذا الجحود الذميم لا يدين به إنسان له أقل علم بتاريخ وطنه في أقرب زمن يعيش فيه، وهو تاريخ مصر في القرن العشرين.
لا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم من التاريخ القريب أن الأجنبي كان يقتل المصري فلا يُحاكَم في هذا البلد بل يُرسَل إلى بلده ليُطلَق سبيله هناك، وأن بعض الأجانب الذين كانوا يضيقون بأجرة العودة إلى وطنهم كانوا يقترفون جريمة القتل لغير سبب ليعودوا على حساب الدولة وهم مطمئنون إلى خفة العقاب. وفي ذلك يقول حافظ إبراهيم رحمه الله:
يقتلنا بلا قود
ولا دية ولا سبب
ويمشي نحو رايته
فتحميه من العطب
ولا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم من التاريخ القريب أن المدير المصري كان يتلقى أوامره من المفتش الإنجليزي في كل مديرية، وأن الوزير المصري كان يتلقى أوامره من المستشار الإنجليزي في كل وزارة، وأن المندوب البريطاني كان يقيم الحكومات المصرية ويسقطها بكلمة لا تقبل المراجعة، وأن مجلس الوزراء كان لا ينعقد بغير حضور المستشار الإنجليزي في وزارة المالية، وأن كل محكمة عليا كان فيها قاض من الإنجليز، وأن النائب العام كان من الإنجليز، وأن حكمدار البوليس كان من الإنجليز، وأن الكونستابل الإنجليزي كان يصدر الأوامر إلى ضباط البوليس من المصريين …!
لا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم من التاريخ القريب أن مصر لم يكن لها وجود بين الدول فأصبحت دولة ملحوظة المكانة في كل هيئة دولية، أو معترفًا لها على الأقل بحقوق الاستقلال.
لا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم من التاريخ القريب أن جيشنا كان يقوده سردار إنجليزي، ولم يكن له عمل غير الاصطفاف حينًا بعد حين في المواكب الرسمية، فأصبح اليوم مفخرة لنا بين جيوش العالم.
لا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم من التاريخ القريب أننا كنا مدينين فأصبحنا دائنين. وأن المصارف والشركات جميعًا كانت في أيدي الأجانب فأصبح الكثير منها في أيدي المصريين، ولا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم أن شراء سلعة من غير الأسواق البريطانية، وإنشاء مشروع كمشروع الكهرباء على غير الأيدي البريطانية كان مستحيلًا قبل سنين.
لا يدين بهذا الجحود إنسان يعلم من التاريخ القريب أين كنا وأين أصبحنا في ميادين الثقافة والعلم والتعليم.
فكيف حدث كل هذا؟
هل أخذناه بغير طلب وبغير جهاد؟
هل أخذناه صدقة من بريطانيا العظمى والدول الأجنبية؟
إن كلامًا كهذا قد يسمعه الغر الجاهل المنكوس الطبيعة فيصدقه لأنه قد استسهل الوطنية فظن أنها لن تتطلب منه شيئًا غير الاجتراء بالشتم والسباب على الأحياء والأموات من خدام البلاد أو ظن أنها لن تتطلب منه أيسر علم بتاريخ هذه الأمة التي يخيل إليه الغرور أنه يخدمها وحده وهو يجهل تاريخها في أربعين سنة مضت، أو أقل من أربعين.
وشيء مليح جدًّا عند الغر الجاهل المنكوس الطبيعة أن يظن أنه هو وحده جيل الله المختار لغير سبب من الأسباب إلا أنه قد شرف الدنيا بطلعته البهية بعد سنة 1925 أو بعد سنة 1930.
ولكنها نكبة على البلد أن يكون هذا هو التفكير الذي يحمل الموازين للحوادث والرجال، ويدعي القضاء في العاملين والأعمال.
ولو أن الجيل الناشئ خلا من أمثال هؤلاء الأغرار، ولم يبق فيه إلا كل ذي فطنة وخلق، لما جاز له أن ينفرد بسياسة هذه الأمة في عهد من العهود، لأن الله لم يخلق أمة ينفرد بها جيل ناشئ أو غير ناشئ، وإنما خلق الأجيال للتعاون والتساند بما يتولاه الشيوخ والكهول والشبان.
ولقد ذكرنا ذلك في بعض فصولنا فكتب كهل جاوز الخامسة والأربعين يرد علينا باسم الناشئة المتعلمين ليقول: بل الواجب على «الجيل الجديد» أن يجلي الجيل القديم ولا يسمح له بمكانه في المجتمع … وهذه هي سنة الحياة!
فقلنا والله إنه لعجب من العجب، إن لم يكن طربًا من الطرب … فقد أصبحنا بحمد الله في مجتمع يدعو فيه أناس إلى حرب الطبقات، ويدعو فيه أناس إلى حرب الأعمار: ابن العشرين يحارب ابن الخامسة والعشرين وابن الخامسة والعشرين يحارب ابن الثلاثين، وابن الثلاثين يحارب أبناء الأربعين والخمسين والستين، ثم يقال عن هذا المجتمع أنه مجتمع يتماسك ويعمل على سنة الحياة.
وأردنا أن نبين أن اعتماد المجتمعات على جيل واحد يعرضها للخطر كما تعرضت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية لأعظم الأخطار من جراء اعتمادها على جيل المواكب والمظاهرات، فسمعنا في الجواب علينا عجبًا كذلك العجب أو طربًا كذلك الطرب، وراح يسألنا: ولماذا انهزمت اليابان؟
سؤال ظريف يدل على نموذج التفكير الذي يدعي لنفسه حق الانفراد بالرأي والانفراد بالعمل، والانفرد بالقضاء في مصير البلاد.
أقول: مات فلان بأكلة سمك فاسد!
فيغرب السامع ضاحكًا وهو يقول: ولماذا مات فلان وهو لم يأكل سمكًا بل كان آخر أكله من البيض المتعفن؟ ولماذا مات فلان وهو لم يأكل سمكًا ولا بيضًا ولكنه كان يعاني الجوع منذ أيام؟ ولماذا مات فلان وهو قد تجرع سمًّا؟ ومات فلان على حبل المشنقة ولم يتجرع شيئًا من الأشياء؟!
إن كان في صاحبنا ابن الخامسة والأربعين شيء من الناشئة التي يتكلم باسمها فهو هذا الكلام بعينه، لأنه كلام يصدر بحق عن ابن العشرين وما دون العشرين.
ولكنه مع الأسف — أسفه هو — لا يعطيه الحق في الانفراد بتدبير شؤون البلاد، فضلًا عن الحق في أن يخلع هذه المنحة السخية على آخرين.