نرحب بإلغاء الرقابة على الصحافة. لأن الرقابة على الأقلام شيء بغيض لا يدعونا إلى احتماله إلا ما هو أبغض منه، وهو الخوف على سلامة البلاد.
والخوف على سلامة البلاد سبب كافٍ لتقييد كل حرية، ولكننا مع هذا كنا نود أن نخاف على سلامة البلاد ولا يدعونا ذلك إلى تقييد حرية الأقلام. لأننا نود أن يعلم كل صحفي أن غيرته على بلاده لا ينبغي أن تقل عن غيرة الحكومة المسئولة عنها، فيراقب نفسه فيما يكتب وفيما يسكت عنه، ولا يحتاج من الحكومة إلى رقابة عليه.
وإنما يتحقق ذلك عندما يذكر الصحفي مسئوليته كما يذكر حريته، ثم يكون أهلًا للنهوض بتلك المسئولية، وأهلًا لاستخدام تلك الحرية.
وعندنا من الصحفيين من يقدرون مسئوليتهم كما يقدرون حريتهم أحسن تقدير.
وقد عرفنا من هؤلاء الصحفيين من يعلم من أخبار الدولة ما يعلمه الوزراء المسئولون؛ ولكنه لا يذيعها وهو قادر على إذاعتها، وفي سبقه إلى النشر فخر صحفي لا يستهين به صاحب صحيفة أو كاتب فيها، ولكنه مع هذا يطوي ما يعلم في صدره إلى أن يحين أوان نشره، وليست عليه رقابة وليس على استباحة النشر عقاب.
ولو كان هذا شأن الصحفيين جميعًا لما احتجنا إلى رقيب في أوقات السلم ولا في أوقات الحروب.
ولكننا لا نستطيع أن ندعي ذلك في الآونة الحاضرة، ولعلنا نستغني عن ادعائه في زمن قريب إذ يصبح حقيقة مسلمة لا تحتاج إلى ادعاء.
وستظل المسافة بيننا وبين هذه الأمنية بعيدة ما دام فينا صحفيون يقدمون فخر النشر على فخر المصلحة الوطنية، ويعتقدون أن خدمة القارئ هي إرضاء فضوله وإعطاؤه كل ما يشتهيه. أو يعتقدون ما هو أسوأ من ذلك وأوخم عقبى، وهو أن الصحفي مطالب بتقديم أسباب السخط على الحالة العامة لكل قارئ، فلا يصح أن يجد القارئ في الحالة العامة سببًا من أسباب الرضى أو بابًا من أبواب الرجاء.
وأصبح من إرضاء الفضول سلب الرضى من جميع النفوس وعلى جميع الأشياء.
إن الصحفي الذي يلام على إرضاء الفضول فيعتذر باستجابة القراء إلى ما يطلبون يجب أن يذكر على الأقل أنه تاجر يبيع ويشتري وأن التاجر الذي يبيع ويشتري لا يباح له أن يبيع كل شيء أو يشتري كل شيء. فإن من الناس من يلتمس عند التاجر سمومًا تؤذيه أو سمومًا تخدره وتستهويه فلا يحل للتاجر الشريف أن يعطيه ما أراد، ولو بذل ما استطاع أن يبذل فيه.
والصحفي الذي يتكفل للناس بأسباب السخط على حالتهم العامة، يظن أن الاستنكار «الأبدي» هو وظيفة الصحافة، وأنه هو المعصوم الذي لا عمل له غير كشف الذنوب وتسجيل العيوب.
ولسنا نخالف الواقع الذي يعلمه جميع الصحفيين منا إذا قلنا أن هذه الزمرة من الصحفيين العيَّابين هم أعجز الناس عامة عن عمل خاص أو عمل عام.
فمنهم من لا يحسن تدبير بيته.
ومنهم من لو أسند إليه تدبير قرية صغيرة لأخفق حيث يفلح العمدة الجاهل الذي لا يحسن أن يصحح توقيعه على ورقة!
ولكنه يتناول القلم مع هذا فيخيل إليه أنه تناول «القلم الأحمر» الذي يمر به المعلم على كراسات التلاميذ الصغار.
فكل شيء ناقص، وكل عمل يعاب وكل إنسان مقصر أو متهم على الدوام بالتقصير.
ومنهم من يسوم الناس تصديق المستحيل، لأنه يخيل إليهم أن القائمين بالأمر أناس معصومون من الصواب، ويتخيل هو أن الانتقاد نوع من العمى «اللوني» الذي لا يرى في الدنيا لونًا غير السواد.
هؤلاء آلات وليسوا بآدميين أحياء، لأن عملهم يمكن بغير مشقة أن يسند إلى الآلات. والصحافة نقمة على البلد حين يتولاها أمثال هؤلاء.
أما الصحافة التي تخلو منهم فهي النعمة الكبرى على جميع البلاد.
***
يتفق في كثير من الأحيان أن نقرأ الصحف الإنجليزية شهرًا كاملًا فلا نعلم من كلامها من منها المتكلم باسم الحكومة ومن منها المتكلم باسم المعارضة، لولا أننا نعلم ذلك من العناوين والأسماء.
وإنك لتستطيع أن تمتحن من تشاء بنقل الفصول منها ومطالبة القارئ بنسبة كل فصل إلى كل صحيفة، لأنها تحترم قراءها وتخشى احتقارهم لها لو أنها تحيزت في كل مسألة، وأنكرت كل حسنة، وخاطبت الناس كأنهم لا يعقلون ولا يميزون. وهذه الصحافة من أجل هذا هي أوسع الصحف حرية في العالم أجمع.
ولك أن تقول: وهي كذلك أحقها بالحرية وأغناها عن الرقابة بل هي في الواقع خاضعة للرقابة التي لا تفوقها في شدتها ولا في كثرتها رقابة على الإطلاق … لأنها هي رقابة الأمة جمعاء.
وقد علم القوم هنالك حقهم في الحرية، ولكنهم لم ينسوا واجبهم من المسؤولية.
وليس من حق أحد أن يكون حرًّا غير مسؤول.
فإذا سرنا أن نكون أحرارًا فيما نكتب، فلنكن أحرارًا مسؤولين.