كان مثلًا في التبكير إلى ساحة النبوغ، ومثلًا في التبكير إلى ساحة الخلود.
ولد في سنة 1810 وتوفي في سنة 1849 ولمَّا يبلغ الأربعين.
وكأنما أراد القدر أن يعوضه عن قصر حياته فأعطاه في أولها ما تعود أن يعطيه النوابغ في آخر الحياة.
فظهر في الحفلات الكبرى وهو دون العاشرة، وثابر على الظهور بعد ذلك فلم يضيع قط سنة من سنيه القليلة، إلا ما ضيَّعه عليه المرض والفاقة على كره منه.
وآتاه الله حصافة في الرأي فلم يضيع ملكة من ملكاته، كما لم يضيع وقتًا من أوقاته. فعرف آفاقه وعرف أوجه، وقصر عمله على ما يحسنه ويملك التبريز فيه على أقرانه، وهو العزف على البيان.
لم يضيع كثيرًا من جهده في الموسيقى الموزعة أو في «الأوبرات» الضخام، وكان يمضه أول الأمر أن يحسبه النقاد بيانيًّا عظيمًا وكفى، ولكنه راض نفسه على الحقيقة قبل أن يبعثر جهودها ويخرج بها من آفاقها، فرضي بحظه من هذا الفن الواسع الذي لا تحصر حدوده، وهو حظ على هذا غير قليل.
كان يحيى مع «ليست» إحدى الحفلات العامة فطغى عليه «ليست» بضجته وفخامته التي تلائم حفلات الجماهير، وكان نصيب شوبان من التقدير في تلك الحفلة غير كبير. فالتفت إلى زميله قائلًا في شيء من الأسف وشيء من الراحة: مالي وللفرق الموزعة؟! حسبي أن أؤلف لهذه الآلة … وحسنًا صنع، لأنه جمع قوته في ميدانها، فبلغ فيها ذروة لا يسمو عليها نظير.
يدعونه «شاعر الموسيقى» لأنه يوقع في النفس ما يوقعه شعر العاطفة والشجن من الأريحية والحنين: تنغيم سمح وتنسيق جميل وقافية مرتقبة في موضعها.
وشاعر الموسيقى كموسيقي الشعر، كلاهما صاحب لون من الفن يعجب من يحب الشعر ويحب الموسيقى على السواء، ولا ينفرد بالإصغاء إليه معجب بواحد من الفنين.
لم يكن ماردًا من مردة الألحان، ولكنه كان من أعيانها المحبوبين أو من معشوقيها المدللين: ينال من الحفاوة والإيناس فوق ما يناله من الهيبة والتبجيل.
فهو ومارد الموسيقى بيتهوفن طرفان متقابلان: طرفان في «الشخصية» وطرفان في النزعة الفنية. وإنه لعظيم جليل ذلك الفن الذي يجمع في دفتيه هذين الطرفين.
ألف كلاهما لحن تشييع أو لحن جنازة، فكان كل لحن منهما مثالًا لصاحبه، ومثالًا لخالجة من الحزن الإنساني على الراحلين لا يشبه الخالجة الأخرى.
فأما لحن بيتهوفن فهو احتفال بمخرج «بطل» منتصر من معقله في الحياة، نشيعه بالرهبة والتعظيم.
وأما لحن شوبان فهو نشيج حزن على عزيز: أي عزيز يحق له منا أن نشيعه بالأسى والدموع.
ويبدو لنا أنه كان من أجل هذا أقرب الموسيقيين الكبار إلى قلوبنا نحن الشرقيين، لأن موسيقى الحس والقلب أقرب إلينا من موسيقى الخيال والدماغ!
وقد رشحه لهذه الخصلة مولده وزمان نشأته. فقد كان مزيجًا من أب لوريني وأم بولونية، وكلتا الأمتين — أمة اللورين وأمة البولون — أمة قوية الحس مبتلاة بالمحنة، وكلتاهما تعتلج بثورة في طلب الحرية، وما زالت الثورة في طلب الحرية ولن تزال أبدًا موكلة بالوثبة المثالية، تفارق الواقع كثيرًا لتصمد في عالم الفداء والصبر والجهاد.
وقد ذكره البولونيون وحرصوا على نسبته إليهم بعد أن بلغوا ما بلغوه من الحرية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان زعيمهم يومئذ من الموسيقيين العالميين. فلم تشغله أعباء السياسة وأهوال الفتن والمطامع الأجنبية عن إحياء آثار شوبان. وجعل يشرف بنفسه، وهو رئيس للجمهورية، على إحياء تلك الآثار.
وإنه لأحد الأقطاب القلائل الذين يتكلم عنهم المختصون بفنهم وغير المختصين، لأنه هو وموسيقاه مزيج من الإنسانية والفن، يقترب منك إنسانًا كما يقترب منك صاحب ألحان وأنغام.
تذكره حين تذكر قصته الفاجعة مع جورج ساند، كأنك تقرأ أحدوثة من أحاديث العشق التي تحتفظ بها الأمم، على أنماط بينها وأساليب.
وتذكره حين تسمع عن تلك الحلقة الخالدة التي كانت تجتمع في حجرته لتصغي إليها وتصغي إليه. وسيد الشعراء الغنائيين من الألمان «هنريك هيني» مرتفق بالبيان يهتف من لحظة إلى لحظة: «ألا ليت الورود تتوهج كل يوم بهذا اللهب الظافر! ألا ليت الأغصان في القمراء تتغنى بمثل هذا النغم المنسوق …».
وتذكره حين تعرض مآسي الحياة، وهو في حبه المنكوب ومرضه العضال وموته الباكر، إحدى مآسي الحياة.
بل تذكره حين تذكر النخوة والحياء ومحاسن الأخلاق: ترسل إليه سيدة إنجليزية كريمة بألف جنيه ينفق منها في مرضه فيأخذ منها ما يكفيه ويرد إليها أكثرها.
ويعلم أن زميله «ليست» قد استعار منه مفتاح حجرته لموعد غيّ، فيقاطعه أنفة من هذا المجون، لأنه لا يعرف من الصلة بين الرجل والمرأة صلة تنقضي مع شهوات الساعة، ولا يعرف من الحب إلا ذلك الحب الذي يمزج النفوس والأفئدة قبل أن يمزج الأجساد والنزعات.
بل تذكره بأدبه ورسائله، ومنها ما هو رسائل مناجاة وتحية، وما هو من شواهد التاريخ والرحلات، ولا سيما تلك الشواهد التي تدل على الأمم أو تدل على أذواقها في الفنون.
ولا أخال أن أحدًا كتب عن الإنجليز ونظرتهم إلى الموسيقى كما كتب شوبان عنهم يوم زار بلادهم وعجب من مفارقاتهم الفنية قال: «إن هؤلاء الناس إذا ذكروا الفن لا يعنون به غير التصوير أو النحت أو العمارة. أما الموسيقى فليست في تعبيرهم فنًّا. ولن يفهموا من كلمة الفنان إلا أنه مصور أو نحات أو مهندس معمار … إن الموسيقى عندهم حرفة وليست بفن من الفنون … وهؤلاء القوم المعجبون يعزفون من قبيل السمت والزينة، وتعليمهم شيئًا لا يعرفونه من الطرائف المستحسنة ليس بالأمر الهين … قضيت في قصر سيدة من سيدات الطبقة العليا أيامًا وهي في رأيهم موسيقية عظيمة. فاتفق يومًا بعد أن عزفت البيان وأصغينا إلى بعض السيدات الأيقوسيات يغنين وينشدن أنها تقدمت بكل وقار وتناولت الأكرديون وأخذت تردد عليه ألحانًا غاية من النشوز. ماذا تصنع مع هؤلاء؟ كل إنسان هنا يخيل إليك أن في رأسه لولبًا مفكوكًا … وسيدة أخرى أطلعتني يومًا على مجموعتها الخطية وهي تقول: إن الملكة نظرت فيها مرة وأنا جالسة إلى جانبها. وسيدة ثالثة قالت لي: أنها بنت عمة لماري ستيوارت في الطبقة الثالثة عشرة. وغيرهن سيدة طاب لها من قبيل التفنن أن تقف على البيان الذي تصاحب ألحانه بغنائها … ومن كان منهم مطلعًا على أعمالي الموسيقية يقول لي: اعزف لنا آهتك الثانية. إنني أحب أجراسك جدًّا … وكل ملاحظة لهم تنتهي بهذا التقريظ … إنها كالماء! … يعنون أن موسيقاي تتسلسل كما يتسلسل الماء. وما عزفت حتى الآن لسيدة إنجليزية إلا سمعت منها هذه الكلمة من قبيل التقريظ. وكلهم ينظرون إلى أيديهم ويوقعون مع ذلك على اللحن الخطأ وهم في نشوة واستغراق … شعب عجيب الأطوار. كان الله لهم …».
والذين يعرفون أطوار الأمة الإنجليزية ومفارقاتها يعلمون يقينًا أن الموسيقي الظريف قد صدق الوصف والملاحظة في رحلته القصيرة، وإن كان قد آثر بوصفه مبالغة «الصورة الهزلية» … وهي لا تقل عن الصورة الشمسية في صدق الأداء.
ومن طرائف القوم أن هذه السخرية لا تنقصهم ذرة من تقديرهم لشوبان.
وإنه لجدير بتقدير العارفين والمنصفين، جدير بالذكر بعد مائة عام وهو من نذكره كل يوم، وإن أجدر ميت بالذكر لمن نسمعه مشيعين في كل موكب حزين، بما صاغ من لحن للموت قد أصبح اليوم من ألحان الخلود.