سبق إلى أذهان الكثيرين — عندما سمعوا بأن وزارة العدل تنظر في سن تشريع لحماية الأسماء والألقاب — أنها تقصد بهذا التشريع إلى فرض لقب على كل مصري كاللقب الذي فرضه زعيم تركيا الحديثة مصطفى كمال على كل تركي صميم تسجيلًا لانتمائه إلى القومية الطورانية، وكان هو أول المتخذين لقبًا من هذا القبيل، فأطلقوا عليه لقب «أتاتورك» الذي يقترن باسمه إلى الآن.
وسبق إلى أذهان آخرين أن المقصود بالتشريع الجديد هو منع انتحال الرتب والألقاب التي تمنح للتشريف والتقدير.
والظاهر من مشروع القانون أن الوزارة لم تقصد إلى غرض من هذين الغرضين. ولكنها اهتمت بمقصد آخر وهو منع التلاعب بالأسماء والألقاب.
ولا شك أن الاهتمام بذلك لازم نافع وأنه قد جاء في أوانه واستحق من المسؤولين أن يفكروا فيه.
فالتلاعب بالأسماء اليوم قد يكون فيه نوع من الاغتصاب. كالتلاعب بالثروة على حد سواء. لأن الاشتهار باسم من الأسماء في عالم التجارة أو عالم الثقافة يخول صاحبه حقوقًا من الثقة به، والاطمئنان إلى عمله، لا يجوز لأحد أن ينازعه فيها.
كذلك يحدث التلاعب بالأسماء لإخفاء الجريمة وتضليل رجال الأمن والتحقيق، فإن من الأساليب المعروفة في الجماعات الإجرامية أو الجماعات التي تشتغل بالدعاية الخفية، أن يتسمى العضو فيها باسمين أو بعدة أسماء؛ وأن يستعين بتعدد الأسماء على نكران شخصيته والهرب من مطارديه والتغرير بالأبرياء الذين يعرفونه بعنوان غير عنوانه الذي يوجب الحذر منه والاشتباه فيه.
ومن المستحسن في عصرنا هذا أن يصان اسم الأسرة الذي يتوارثه الأبناء عن الآباء، لأن تدعيم الأسرة باب من أبواب تدعيم المجتمع كله، وهو أحوج ما يكون اليوم إلى التدعيم.
وأثر التشريع في كل ذلك لازم ونافع.
غير أننا لا ندري ماذا يكون أثره في تلك الألقاب العرضية التي نود أن تنسى وتهمل، لأنها ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي انقضى أوانها، وليس لها الآن حق في البقاء.
وعندنا من هذه الألقاب نوعان: أحدهما كان له معنى في زمانه، والآخر لم يكن له معنى مفهوم في زمانه ولا في هذا الزمان.
فمن الألقاب التي كان لها معنى في بعض الأزمنة لقب النسبة إلى بعض المدن أو بعض الأقاليم.
فقلما كان أحد يذكر في القرن الماضي إلا وهو منسوب إلى مدينة أو إقليم، وقد تخلف من ذلك أثر باق إلى يومنا هذا في كل اسم يتبع بالنسبة إلى بلد صاحبه أو إقليمه، كالطنطاوي والشرقاوي والدمنهوري والداندراوي والإسكندراني والمنصوري، وما شابه هذه النسب والألقاب.
وتلك بقية من الزمن الذي كانت الوطنية فيه «وطنية إقليمية» ولم يكن الوطن القومي فيه غالبًا على وطن المولد والإقامة … حتى لقد كان بعضهم يطلق اسم «المصري» ويريد به مولود القاهرة تمييزًا له من مولود الصعيد أو الإسكندرية.
وذلك معنى عتيق قد تبدل زمانه وتبدلت أحواله، ولا نستحب له البقاء أكثر مما بقي إلى اليوم.
أما النوع الآخر من الألقاب التي لم يكن لها معنى في زمانها ولا في هذا الزمان فهو تلك الألقاب التي كانت تضاف للتحلية في بعض عهود الحكم التركي، وقد هجرها الترك أنفسهم في العهد الأخير.
أذكر أننا دُعينا صفًّا صفًّا أول يوم لانتظامنا في المدرسة الإبتدائية ليسألنا الموظف المختص عن أسمائنا، ويمنح كل تلميذ لقبًا ينادى به في المدرسة وفي خارجها.
ثم خرجنا وهذا يسمى «حسني» وهذا يسمى «صبري» وذاك يسمى «عوني» وذلك يسمى «رفقي» إلى غير ذلك من الألقاب المعتسفة لغير سبب وبغير دلالة.
وأذكر أنني أنا وتلميذين آخرين فقط رفضنا هذه الألقاب اللصيقة بنا، وأبينا أن ندعى بغير أسمائنا وأسماء آبائنا وأضربنا عن الإجابة كلما نودينا بغير تلك الأسماء. فبقيت لنا أعلامنا التي نُعرَف بها الآن.
وبعض هذه الألقاب لا معنى له من الناحية اللغوية فضلًا عن الناحية الاجتماعية أو العرفية.
فأنت تفهم مثلًا أن يلقب إنسان بحسني نسبة إلى الحسن، أو بعدلي نسبة إلى العدل، أو بفتحي نسبة إلى الفتح، ولكن أي معنى تفهمه في تلقيب إنسان بوصفي نسبة إلى الوصف؟ أو بسري نسبة إلى السر؟ أو بقصدي نسبة إلى القصد؟ وهي نسبة لا تدل على شيء في الاسم ولا في المسمى.
وقد يؤدي هذا التلقيب المعتسف أحيانًا إلى التفرقة بين الأخوين فلا تعلم من اسميهما أنهما أخوان … لأن أحدهما يلقب بفهمي والآخر يلقب برشدي أو صبري، فيذهب اسم الأسرة بين اللقبين المختلفين.
هذه بقية من تقليد غير مفهوم، مضى عهده ولا موجب لاستدامته والمحافظة عليه.
ولهذا نرجو أن يخلو التشريع الجديد من كل نص يحمي هذا التقليد الدراسي ويمنعه أن يلقى مع الزمن حظه من النسيان.