جاء في أنباء الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة التي تنعقد الآن بمدينة نيويورك أن «الرفيق جروميكو رئيس الوفد الروسي ألقى فيه خطابًا يدافع به عن حق النقض أشار فيه إلى القضية المصرية فقال: «عرضت مصر نزاعها مع بريطانيا العظمى على مجلس الأمن مطالبة بجلاء القوات البريطانية عن أراضيها. وكلنا يعلم أن هذا الحق طبيعي لا جدال فيه. ولكن بريطانيا أبت الاستجابة إلى هذا الطلب ولا تزال القوات البريطانية مقيمة في الأراضي المصرية بحجة الدفاع عن مصر؛ وهي حجة باطلة لا نصيب لها من الصحة. فهل هذا ما توقعته مصر من هيئة الأمم؟ وهل روسيا مسئولة عن مثل هذا الموقف الشاذ؟ وهل جاء ذلك نتيجة لحق النقض في مجلس الأمن؟ كلا. بل هو نتيجة للسياسة الاستعمارية التي تسير عليها بريطانيا العظمى!»
كلام عظيم!
بل درس عظيم في علاقة السياسة الوطنية بالسياسة الدولية.
فإن الرفيق جروميكو ينادي بهذا الحق لسبب واحد: وهو الخلاف بين دولته وبين بريطانيا العظمى.
إنه لا ينادي بهذا الحق لأنه حق. ولا ينادي به لأن مصر تدين بالشيوعية أو تتسامح في نشرها بالوسائل المعهودة بين أهلها.
كلا ولكنه ينادي به لأن روسيا وبريطانيا العظمى متنازعتان في السياسة العالمية.
وتلك حقيقة يجب أن يذكرها أولئك الذين يفهمون السياسة الدولية على طريقة «بوس الرأس» و«حقك عندي» … و«نحن أصحاب» … وما شابه ذلك من مصطلحات العرف المعهود في مجاملات الشارع والسوق.
فأيًّا كان موقفك من الدول الأجنبية، فهي تنصرك إذا كانت قضيتك مع دولة أخرى تنازعها وتعمل على إحباط سياستها.
وأيًّا كان حقك في قضيتك فهو حق ضائع إذا اتفقت الدولتان في الوجهة السياسية، ولو إلى حين.
ولهذا اعترفت روسيا بحق مصر لأن روسيا تخالف بريطانيا العظمى في موقفها الحاضر من هيئة الأمم المتحدة.
ولم تعترف روسيا بحق العرب في قضية فلسطين لأن الدولتين متفقتان في الاعتراف بعصابة إسرائيل.
***
إن هذا الدرس في علاقة السياسة الوطنية بالسياسة الدولية نسخة جديدة من درس قديم، لعلنا حفظناه بعد التكرار الطويل.
كانت فرنسا وبريطانيا العظمى متنازعتين على المطامع الاستعمارية في أوائل عهد الاحتلال.
فكان منا من يعلق الآمال بفرنسا في المطالبة بحقوق مصر الوطنية.
وكانت فرنسا ترضى عن هذه الآمال المعلقة بها وتستزيدها خفية من غير أن تتقيد بكلام صريح على لسان رجالها الرسميين. ثم اتفقت الدولتان على تبادل الإغضاء والموافقة في قضية مصر وقضية المغرب الأقصى.
فأصبح حق مصر باطلًا وأصبح باطل الاحتلال حقًّا، ودام الحال على ذلك إلى ما بعد الحرب العظمى فكانت فرنسا أسبق المعترفين بالحماية البريطانية …!
بل كان من أسبق المعترفين بتلك الحماية رئيس الولايات المتحدة الذي سماه بعض الكتَّاب بمسيح زمانه.
وقد سموه «بمسيح زمانه» لأنه خرج على العالم بأربع عشرة وصية يمليها على مؤتمر السلام في فرساي ومن هذه الوصايا الاعتراف بحق الأمم في تقرير المصير.
ولكن هذا الرئيس ويلسون كان على وفاق مع رئيس الوفد البريطاني لويد جورج.
فاعترف بالحماية البريطانية، وكانت طريقته في الاعتراف بها أدهى وأنكأ من الاعتراف: لأنه انتظر حتى وضع الوفد المصري قدمه على أرض فرنسا في طريقه إلى باريس لعرض قضيته على مؤتمر السلام، معتمدًا على حق تقرير المصير وعلى الرئيس الذي نادى بذلك الحق وعلق عليه مصير السلام في العالم بأسره …
فإذا بذلك الرئيس — مسيح زمانه — يستقبل وفد مصر باعتراف ينقض حق الأمة المصرية في تقرير مصيرها، ثم يرفض بعد ذلك أن يستقبل أحدًا من المصريين أو يجيب على الرسائل التي كانوا يكتبونها إليه.
***
والعبرة من هذا كله أنهم لا يعترفون بحقنا لأنه حق، ولا ينكرونه لأنه باطل، ولكنهم يعترفون وينكرون بمقدار ما بينهم من شقاق أو وفاق. وحتى هذا لا يجوز لنا أن نعول عليه كل التعويل.
فإنهم قد يختلفون أشد الاختلاف في جميع المسائل ويتفقون مع ذلك على مسألة واحدة، كما حدث في قضية فلسطين.
وهم في الواقع لم يتفقوا في قضية فلسطين لأنهم يؤمنون بحق العصابة الصهيونية، وإنما اتفقوا لأن كل معسكر من المعسكرين يطمع في تسخير العصابة الصهيونية على هواه.
والسياسة الوطنية التي نتعلمها من هذه الدروس المتعاقبة أننا خليقون أن نستفيد من مواقف الدول في الحالتين: حالة الشقاق وحالة الوفاق، ولكن دون أن نغرم الثمن من حسابنا، لأنهم أحق بالغرم منا، ما داموا يخدمون أنفسهم ولا يعنيهم أن يخدمونا في حالة الشقاق أو في حالة الوفاق.