نشرت إحدى الزميلات اليومية وصفًا لبعض الأعراس التي أقيمت في مصر أخيرًا فقالت أنها «تضع تحت نظر دولة رئيس الحكومة صورة واحدة لما نشرته بعض الصحف أخيرًا عن حفلة مصرية أقامها مصري وأعادت إلى الأذهان قصة ليالي ألف ليلة وليلة، وقد جاء في وصفها ما يدل دلالة قاطعة على أن ما صرف على إحيائها لفترة ساعات يكفي لاعالة عدة عائلات فقيرة تشكو المرض والجوع لأشهر طويلة … ».
ثم قالت: «وإذا كان دولة رئيس الحكومة لا يستطيع — احترامًا للحريات الشخصية في عرف الديمقراطية أن يمنع إقامة مثل هذه الحفلات، فإنه يستطيع قطعًا أن يمنع نشر كل ما يتصل بهذه الحفلات، وهو بهذا لا يتعدى إطلاقًا على حرية الصحافة».
وعللت الزميلة اقتراحها بأن الحفلات التي وصفتها تهدد المجتمع بإشاعة السخط أو «التذمر الهدام».
ونحن ندع لرئيس الحكومة المصرية أن يصنع المعجزة — بل ما فوق المعجزة وهو المستحيل الذي يجمع بين النقيضين — ليوفق في أسبوع واحد بين الضدين اللذين يلومه أحدهما لأنه لا يسمح بإذاعة الأسرار العسكرية وما إليها ويلومه الآخر لأنه لا يمنع أخبار الأعراس والأفراح.
فالحق أن الحكم الديمقراطي في مصر معناه عند بعض الناس أن يطالب رئيس الحكومة بصنع المعجزات بل المستحيلات.
على أن هذا لا يمنعنا أن نجاري الكاتب الفاضل في انتقاده للبذخ في إقامة الأفراح سواء حدث من جرائه «تذمر هدام» أو لم يحدث منه تذمر على الإطلاق.
نجاريه في انتقاده دون أن ننظر إلى عرس معين أو نهتم بالسؤال عن العرس الذي يعنيه.
لأن البذخ الذي يبلغ حد البهرجة هو «قلة ذوق» تؤذي كل طبع سليم ولا يقصر أذاها على إثارة الحسد في نفوس المحرومين أو تمكين العناصر الهدامة من نشر مذاهب الفوضى والخراب.
إن مجرد الإنفاق لإظهار الغنى أو القدرة على إضاعة المال ينتهي إلى أنه جلافة همجية تكثر بين الناس كلما قل الفهم وقل الذوق وقلت الحضارة.
هل رأى القارئ في بعض قرى الريف النائية أولئك النسوة الجاهلات اللائي يزكمن الأنوف برائحة الوضر في الطرح والملاءات؟
إنهن يغمسن الملاءة في صفيحة السمن أيامًا وهو لو سقطت قطرة منه على ملابس سيدة «متمدينة» لغسلته على الأقل أو استغنت عن الكساء الذي سقط عليه.
وهن لا يفعلن ذلك لأن منظر الملاءة الملوثة بالسمن جميل، أو لأن رائحة الوضر مستحبة أو مقبولة، وإنما يفعلنه ليظهرن أن ثمن الصفيحة من السمن ليس بالشيء الكثير عندهن! وليس هنالك فرق كبير بين من تستغني عن صفيحة من السمن ليقال أنها تملك منه صفائح عدة وبين من ينفق الألوف على المظاهر ليقال أنه صاحب مال.
فهما في الذوق والفهم والحضارة قريب من قريب.
ولكنني أعود فأقول إننا إذا جاز لنا أن ننكر الجلافة الهمجية لم يجز لنا أن نعترف برذيلة الحسد ونجعلها أساسًا من أسس التشريع أو الأخلاق في الأمة.
فليأخذ الجلف نصيبه من الاستهجان، وليكن للحاسد أيضًا نصيبه من الاستهجان.
ونود أن نقول أننا نظلم الفقراء المحرومين حين نحصر فيهم حسد البذخ والبهرجة في غير معنى.
فالواقع أن أكثر الحاسدين لمن يبذرون الألوف في المظاهر هم أولئك الذين يبذرون المئات فقط ولا يستطيعون أن يبذروا الألوف، أو هم أولئك الذين يبذرون الألوف القليلة ولا «ترتفع» قدرتهم إلى تبذير الألوف الكثيرة!
أما الفقير المحروم فهو على الأكثر مظلوم إلى جانب هؤلاء الأغنياء «الصغار» أو الأغنياء المحرومين.
والآفة كلها فيما نرى هي في النهاية آفة الجهل بقيم الحياة.
فليس المال هو كل ما في الحياة من قيمة محسودة، بل هنالك قيمة الثروة النفسية والثروة الخلقية والثروة الذهنية وثروة الذوق الذي يستمتع في هذا العالم بكل جميل فيه، وهو كثير لا يستوعبه الإحصاء.
أنت «صاحب ذوق» وأمامك صاحب مليون من الجنيهات محروم من الذوق، فهل تحسده؟ هل تبادله؟
إنه لو أدرك الفارق بينه وبينك لحسدك وتمنى نصيبك، ولكنه لا يفهم فلا يحسد ولا يتمنى وهو من أجل ذلك مستحق للرثاء لا للحسد والبغضاء.
والآفة كلها في العصر الحديث — كما أسلفنا — هي آفة الجهل بقيم الحياة، وحصرها كلها في المال والمادة أو في هذه المتع الجسدية التي يشاركنا فيها الحيوان أو لا يحتاج لكي يشاركنا فيها إلى ارتقاء كثير.
ولو أن إنسانًا يدرك قيم الحياة وضعوا في يده الألوف وخيروه بين إحراقها أو إنفاقها كما ينفقها الجاهل المتبذخ لكان إلى الإحراق أسرع منه إلى الإنفاق.
فقلة الذوق حرمان لا يقل عن قلة المال، بل هو ولا شك أدعى منه إلى الرثاء.
وليس علاج الجلافة أن نداريها من المحرومين، أو نعترف من أجلها بحق الحسد في الظهور وإملاء الشرائع والأخلاق.
وإنما علاج هذا وذاك جميعًا هو الإيمان بقيم الحياة.