الفلك لم يتهود!

الكاتب: عباس محمود العقاد

الناشر: جريدة الأساس

تاريخ النشر: 1 أبريل 1949

في بعض أيام الدولة الفاطمية شاءت أسباب مالية تؤيدها أسباب نسائية أن يتغلب سلطان اليهود على الدواوين وعلى الأسواق فقال الشاعر ابن البواب ساخرًا ساخطًا:

رحم الله ابن البواب ماذا يقول الآن إذا رأى يهود هذا الزمان!

إنه على أية حال لا يستطيع أن يزيد على أن الفلك قد تهود، ولكنه سيترك نصيحة أهل مصر ليوجه هذه النصيحة إلى أمم الأرض قائلًا من غير أن يخرج على الوزن وأحكام العروض:

فلو عاد ابن البواب اليوم إلى الحياة لخيِّل إليه أن الفلك لم يشتمل في هذا الزمان على أمة واحدة يقال عنها أنها تفعل ما تشاء بغير وازع ولا رادع غير الأمة اليهودية، أو الأمة الصهيونية.

وحسبها من ذلك أنها تجرم فتصبح جريمتها قانونًا تسقط أمامه الحقوق …

إذا تشرد اليهود في أوربة كان تشريدهم ظلمًا يستحقون من أجله التعويض والعطف والمعونة، ويقضي بذلك من ظلموهم وشردوهم … وهم الأوربيون!

أما إذا شرد اليهود مئات الألوف من العرب، وأخرجوهم من بلادهم التي عاشوا فيها وعاش فيها من قبلهم آباؤهم وأجدادهم عشرات القرون، فهذا التشريد حق يترتب عليه حق آخر: وهو استيلاء الصهيونيين على تلك البلاد وإغلاقها في وجوه أصحابها المشردين!

وإذا كان للقانون الدولي سوابق وتقاليد، فالسابقة التي شرعتها معاملة الدول للصهيونيين شيء عجيب لا ندري كيف يمكن أن يصاغ في لغة القوانين.

فالحكومات التي تطلب من الدول أن تعترف بوجودها مطالبة بشروط تستوفيها كل الاستيفاء — أو بعض الاستيفاء — قبل أن تظفر بذلك الاعتراف.

فيجب أن يثبت لها أولًا أنها قامت بالحكم فعلًا، وأنها قامت به في مكان معروف الحدود معروف الرعايا والسكان، وأنها مستعدة لقبول الالتزامات الدولية وتنفيذها، وأنها تعترف بأصول الشرائع الإنسانية التي تواضعت عليها أمم الحضارة.

فإذا أراد عالم من علماء القانون الدولي غدًا أن يضع قواعد الاعتراف بالحكومات كما يستمدها من السابقة الصهيونية فماذا يقول؟

لابد أن يقول — شاء أو لم يشأ — أن مجرد إعلان الحكومة كاف للاعتراف بوجودها، وأن التثبت من حقها لا يحتاج إلى أكثر من عشر دقائق، وأنها تؤكد هذا الحق كلما نقضت عهدًا أو خرجت على اتفاق، وتزيده توكيدًا كلما وقع منها العدوان على الأرواح والأموال، وكلما مضى الوقت ولم يلحق بذلك العدوان عقاب.

إن السابقة الصهيونية تملي هذا إملاءً على من يريد أن يضيفها إلى عرف السوابق والتقاليد، وأن يلغي بها ما تقدم من «الشروط» على اعتبار أنها هي العرف الأخير.

ولكنه قد يضيفها ويضيف إليها وهو صادق: إن هذا هو حكم قانون الدول مع الصهيونية دون غيرها. أما «غيرها» فهو مأخوذ بما يفرضه العقل والعادة والحياء في جميع الأحوال.

ولا احترام للعقل ولا للعادة ولا للحياء عند ما يكون الكسب للصهيونيين ويكون الخسار على الآخرين.

وابن البواب معذور حين يعلن «تهود الفلك» إذا كان للصهيونية وحدها حق غير الحقوق، وقانون غير القوانين، ومعاملة غير المعاملات.

ولكن هل يمكن هذا؟

هل يمكن أن ينتظم في هذه الدنيا عرف يزري بالعقل، وينقض العادة، ويتجرد من الحياء؟

إن القوة المادية — قوة المال والسلاح — قد حاولت بعض هذا في جميع الأزمان فلم تفلح، أو لم تبلغ من الفلاح ما يكتب له البقاء.

ولا نحسب أن الزمن سيطول قبل أن تعرف القوة المادية — قوة المال والسلاح أنها لا تقدر على كل شيء ولا تقدر على تهويد الفلك كما قال ابن البواب.

فهم يتكلمون اليوم عن شرق البحر الأبيض واتفاق أممه وحكوماته على الدفاع …

فإذا اعترفت القوة المادية — قوة المال والسلاح — بعصابة صهيون ولم تعترف أمم البحر الأبيض بها فكيف يكون الاتفاق؟

على أننا نسأل هذا السؤال ونتخيل أن الصهيونية نفسها متفقة على الموقف الذي تلتزمه بين الكتلة الديمقراطية والكتلة الشيوعية، فهل هي حقًّا في هذا الموقف على اتفاق؟

إن القوة المادية — قوة المال والسلاح — لا تضمن اتفاق الصهيونية على الورق ولا تضمنه في الواقع، لأن عصابة صهيون نفسها كتلتان على الأقل متنازعتان وليس منها كتلة تخلص في نية أو يوثق بها في تنفيذ.

ويوم يجد الجد، وتنقشع الغشاوة عن العيون، سيتوارى لا محالة ذلك «الفلك المتهود» الذي تراءى لابن البواب، ويبقى على الدوام ذلك الفلك الدوار الذي قال فيه حكيم المعرة: