علماء التربية في أوربة — يبحثون مسألة التعليم الديني في المدارس العامة وأذهانهم لا تخلو من تاريخ الصراع بين الدولة والكنيسة.
ولهذا تنظر إلى بحوثهم في هذه المسألة فترى أنهم يفكرون فيها كأن المهم فيها هو «المعلم» المشرف على التعليم، وليس المهم هو «المتعلم» وحاجته إلى نوع خاص من المعرفة أو نوع خاص من التربية النفسية.
فإذا تركنا هذا الجانب من المسألة — جانب الهيئة التي تتولى التعليم الديني في المدارس العامة — فليس في كلامهم كله اعتراض وجيه على التعليم الديني من وجهة البرامج المدرسية ونظم التعليم والتربية.
أما في أمريكا — ونعني الولايات المتحدة على الخصوص — فالدستور يحرم على برلمان الدولة أن يقرر نظامًا معينًا لتعليم الدين في المدارس الحكومية أو المدارس التي تشرف عليها الحكومة.
ولكنهم لم يحرموا ذلك إنكارًا لتعليم الدين من حيث هو مادة داخلة في أصول التربية؛ بل حرموه لأنهم تركوا للولايات تنظيم هذا التعليم على حسب المذاهب التي ينتمي إليها التلاميذ وأولياء أمورهم. فلا يجبر التلميذ الكاثوليكي على تعلم الشعائر البروتستانتية أو المذهبية الأخرى ولا تقام الصلاة في مدرسة من المدارس على طريقة يقبلها بعض المصلين ويرفضها الآخرون.
أما التعليم الديني — من غير هذه الوجهة — فعناية الأمريكيين به، شعبًا وحكومة، هي هذه العناية التي نستطيع أن نلحظها في بلادنا الشرقية ونفهم منها أنهم في مقدمة الأمم الغربية اهتمامًا بهذا الموضوع وسخاءً في الإنفاق عليه.
وفي هذه السنوات خاصة — قبل الحرب وبعدها — يكثر البحث في أصول المسألة الدينية وتقريب وجهات النظر إليها بين رجال الدين ورجال العلم الحديث، فلا تنقضي السنة إلا وقد ظهر من أقلام العلماء والفلاسفة عشرات الكتب في بحث المذاهب المادية على ضوء العلوم الطبيعية، وهي في جملتها تنزع إلى إحياء عقائد الأديان.
فموضوع التعليم الديني في العصر الحاضر له جانب غير جانبه التاريخي الذي يحيط عند الأوربيين والأمريكيين بمسألة الصراع بين الدولة والكنيسة.
وهو على كل حال جانب لا يعنينا في تعليم الدين بمدارسنا العامة، وليس هو مع ذلك بالجانب المهم في الموضوع، لأن المهم هو حاجة الناشئ إلى «التربية الوجدانية» وليس تاريخ القائمين على هذه التربية عند الأوربيين أو الأمريكيين.
إن أحدًا من علماء التربية لا يقر التعليم الذي يعنى بالعقل مثلًا ويهمل الجسد، أو يعنى بالعقل والجسد ويهمل الذوق والأخلاق.
فهل في وسع عالم من علماء فن التدريس أن يجزم ببطلان التربية الوجدانية، أو يجزم بأن معاهد العلم معفاة من واجب هذه التربية؟
وهل إذا وجد هذا العالم يكون له من الخطر ما يحتم علينا الأخذ بمذهبه والتعويل عليه دون غيره؟
إن حبكة «البداجوجيا» التي نعلم جلالة شأنها عند بعض فقهائنا التعليميين لا تمنعنا أن نقرر أن وظيفة التربية الكبرى هي تنمية الملكات الإنسانية جميعًا في نفس الناشئ المتعلم، وأن الناحية الوجدانية هي ولا شك إحدى هذه الملكات.
فإذا كان التعليم الذي يهمل الجسد أو الذوق ناقصًا فلن يكون التعليم الذي يهمل جانب الوجدان نموذجًا لفن التعليم الصحيح.
ونحن كلما ذكرنا التعليم الديني عنينا هذه الحقيقة قبل غيرها، وهي أن يكون التعليم المدرسي شاملًا للتربية الوجدانية. فلا يخرج الناشئ من المدرسة وهو معطل الوجدان، وكل ما عدا ذلك من البحث في المواد والأساليب فهو من التفصيلات التي لا تقدم ولا تؤخر في جوهر الموضوع.
ومن المسلم به — فيما نعتقد — أن التربية الوجدانية لا تتحقق بمجرد حفظ النصوص التي تعيها الذاكرة.
فإننا نعلم من جميع التجارب الماضية أن روح الدين غير ألفاظ النصوص، فإن لم يكن في هذه التجارب الماضية مقنع فالحوادث الأخيرة كفيلة بإقناع من يحسب أن إيمان الضمير مسألة نصوص وألفاظ، فقد رأينا أناسًا يقدمون على الإجرام وهم يحفظون من آيات الكتب السماوية ما لا يحفظه الألوف ممن لا يقدمون في حياتهم على جريمة كبيرة أو صغيرة، لأنهم يسيئون فهم ما يحفظون، ويفسرونه لأنفسهم كما تسول لهم نوازع الإجرام.
فتربية الروح الدينية هي الغرض الأول من تعليم الدين في المدارس العامة، وليس معنى هذا بالبداهة قلة العناية بالنصوص المحفوظة في مراحل التعليم التي يتدرج فيها الناشئ حسب قدرته على الحفظ أو قدرته على الإدراك، وإنما معناه أن يكون الحفظ معينًا على فهم روح الدين وتقويم عوج الطباع، وهو بلا شك يؤدي إلى هذه العناية إذا حسنت طريقة التعليم، واقترنت بالقدوة النافعة التي يوحيها المعلم إلى التلميذ.
وقد كانت دروس التربية الدينية في مدارسنا ناقصة في مقدارها كما كانت ناقصة في تأثيرها، فنرجو أن توفق وزارة المعارف إلى خطة مدرسية نافعة تستدرك هذا النقص في المقدار وهذا النقص في التأثير.