من النعم الجزيلة التي يستمتع بها صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا نعمة النسيان.
يستمتع بها في سرف بالغ وترف سابغ وشرف دامغ نابغ … وأمتع ما في نعمة النسيان هذه أنه نسيان معلق بالإرادة متصل بالمزاج: يريد رفعته أن يذكر فيذكر، ويريد أن ينسى فينسى، فهو يذكر ما يهواه على ما يهواه وينسى ما يشاء حسبما يشاء.
وأول ما نسيه مقامه الرفيع أنه رجل كان قاضيًا في يوم من الأيام، وكان حاكمًا في يوم من الأيام، وكان زعيمًا في يوم من الأيام.
ولن يطلب شيء ممن كان قاضيًا وكان حاكمًا وكان زعيمًا كما يطلب منه أن يتكلم كلام المسؤولين؛ فلا يلقي القول على عواهنه في أصغر اتهام فضلًا عن أكبر اتهام، وفي أيسر ادعاء فضلًا عن أخطر ادعاء.
ولكنه نسي أنه قاضٍ، وأنه حاكم، وأنه زعيم، وإن كان ذلك في يوم من الأيام.
فراح يستنجد ويستغيث لأن العهد الحاضر يتبرع بمد الأحكام العرفية تبرعًا، ويتطوع لها تطوعًا، من غير سبب ولا شبه سبب، ومن غير ضرورة ولا شبه ضرورة. بل لمجرد التطوع والتبرع لوجه الله، أو على غير وجه من الوجوه.
وهذه أول نسية من نسيات تلك النعمة الجميلة، أو تلك المتعة المباركة. لأن مقامه الرفيع قد نسي أن قوانين البلاد توجب إقامة الأحكام العرفية عند وقوع الاضطرابات الداخلية، وأنها في هذه الحالة يجوز أن تقام ابتداء ولا ينحصر الجواز في امتدادها وهي قائمة، ولا في تأجيل إلغائها للسبب الذي يوجب إعلانها، ولا يسمح بالتفكير في الإلغاء.
أما الاضطرابات الداخلية فقد نسي رفعته أنها واقعة، لأنه لا يحسب من الاضطرابات الداخلية أن يتخذ المفسدون عدة لانقلاب دموي مزود بسلاح لا يتوافر لبعض الجيوش، مستعد بجنود من دعاة الإرهاب والخراب يدخلون في عداد الألوف، ماضٍ في العدوان على القضاة ورجال الأمن والوزراء ورؤساء الحكومات، مستخف بأرواح الأبرياء في المحافل والطرقات، معتمد على مدد من المال يوشك ألا ينقطع؛ وعون من الشيوعيين تارة والصهيونيين تارة أخرى يملي له في كل ما استطاع من أسباب الشر والدمار.
أتسمى هذه اضطرابات داخلية؟
كلا. وألف مرة كلا. لأنها لم تقع في ذاكرة المقام الرفيع، حين كتب بيانه في غمرة من المتاع بنعمة النسيان.
ونسي المقام الرفيع أنه مسؤول وأن أول ما يطلب من المسؤول أن يقيم البرهان على ما يقول.
والحاجة إلى البرهان قائمة في كل بيان.
فما بالنا بالبيان الذي أيسر ما فيه اتهام بخنق الحريات وهدم الدستور والتنكيل بالأحرار والعبث بمصير البلاد والتلهي بالبطش حبًّا للبطش والسلطان؟
هنا تبلغ نعمة النسيان غاية ما تبلغه النعم على عباد الله.
فقد نسي المقام الرفيع أدلته على خصومه كما نسي أدلة الخصوم عليه.
نسي حقيقة الحكم العرفي اليوم وهو قائم، كما نسي حقيقة الحكم العرفي الذي كان قائمًا قبل سنوات لا تسمح بالنسيان.
فالحكم العرفي الذي يقوم اليوم قد أذن للمقام الرفيع بنشر بيان.
والحكم العرفي الذي كان قائمًا بالأمس كان يمنع كل بيان ويلقي بالقبض السريع على ناشريه وحامليه.
وكان يفرض الرقابة على الشيخ والنائب تحت قبة البرلمان.
بل كان يمتد بالحجر والتنكيل إلى الطاهي الذي لا يحسن الطبخ أو لا يحسن أدب الخطاب، وإلى الموظف المسكين الذي يختلف مع وزير من الوزراء في شأن من شؤون الزواج والطلاق.
فيقذف بهذا إلى محجر الطور، ويقذف بذاك إلى معسكر الاعتقال.
بل كان من سلطان الحكم العرفي في ذلك الزمان ما يوحي الإلهام إلى الأمزجة والأذواق في مسائل الطرب والتلحين، فحيل بين الصحف وبين التعليق على أغاني هذه المطربة لأنها ذات حظوة وبين الثناء على ذلك المطرب لأنه يغني في مجالس الخصوم.
كان فنًّا من الفنون الجميلة ذلك الحكم العرفي البديع!
ولم ينسَ أحد كما نسي المقام الرفيع أن المقام الرفيع لم يحكم قط حكمًا غير الحكم العرفي في عهد من عهود الحرب أو عهد من عهود السلام.
فالحكم العرفي في سنة 1942 مفهوم لأنها سنة من سنوات الحرب العالمية.
أما الحكم العرفي في سنة 1936 فلم يكن مفهومًا على وجه من الوجوه، لأنها لم تكن سنة حرب ولا سنة ثورة، بل كانت سنة معاهدة وفخار، وسنة رعاية وحسن جوار.
ومع هذا كان «الحكم العسكري» قائمًا باسم جيش غير جيش البلاد، وعلى قانون غير القوانين التي تعرفها الشرائع والمشترعون.
كان قائمًا باسم جيش المقام الرفيع.
جيش القمصان الزرقاء!
فبمقتضى الأحكام العرفية هذه هوجمت صحيفة الأهرام وصحيفة البلاغ.
وبمقتضى الأحكام العرفية هذه هوجم مكتب النقراشي وهوجم بيت محمد محمود، وكان الجنود الزرق البواسل يخترقون الطريق من شبرا إلى شارع الفلكي وهم يهتفون: نريد رأس النقراشي … نريد رأس محمد محمود … فتركهم رجال الأمن مكرهين مأمورين ليبلغوا عقر الدار التي يريدون رأس صاحبها، ويزلزلوا الباب حتى أوشكوا أن يكسروه، ولو لم يدفع أصحاب الدار عن أنفسهم يومئذ، لما وجدوا من حولهم من يدفع عنهم خطر الموت والعذاب.
بمقتضى تلك الأحكام العرفية وقع هذا.
وبمقتضاها حوسب مأمور القسم الذي لم يقبل هجوم الجنود البواسل على مكتبه، ونقل من مصر قاضي المحكمة التي أدانت أولئك الجنود.
شيء من السهل أن ينسى!
من السهل على المقام الرفيع فقط أن ينساه.
والمقام الرفيع مغمور بالنعم وفي طليعتها نعمة النسيان.
ولكن المساكين الذين لا تغمرهم النعم كما تغمر المقام الرفيع كيف ينسون؟ وكيف يتناسون؟
إنما للعبد ما رزق.
ولم يرزق المساكين من أبناء هذا البلد حظًّا كحظ المقام الرفيع ولا نسيانًا كنسيان المقام الرفيع.
فمن هنا هم يذكرون، ويحمدون الله على نعمة الذاكرة لأنها — والحق يقال — خير من نعمة النسيان.