ولا حرية لأحد إذا تيسرت للجريمة أسبابها، وتعذر على حراس الأمن والقانون أن يتعقبوها ويتخذوا العدة لمنعها قبل انطلاقها.
وإذا صدق هذا على كل جريمة فهو أصدق ما يكون على الجريمة الكبرى التي لم تعرف لها مصر مثيلًا في تاريخها، ولعلنا لم نعرف لها مثيلًا في التاريخ الحديث بين أمم العالم قاطبة.
جريمة لا تقنع بما دون قلب الدولة كلها والغلبة على مشيئة الأمة بأسرها.
لا تقيم وزنًا للأرواح، لأن المبالاة بالأرواح «تنطع» في رأي أولئك الزعانف الذين حدثتهم نفوسهم بتدبيرها وتنفيذها.
لا تقيم وزنًا للحرية في حق من حقوقها أو في واجب من واجباتها:
حرية القاضي فهي تفرض عليه أن يسخر ضميره لمرضاتها، وتقتله إذا حكم على مجرم من مجرميها.
حرية المحقق فهي توجب عليه أن يطمس الحقائق التي تدينها ويرسل حبالها على غواربها، وتقضي عليه وعلى مئات من زملائه بالموت إذا كشف الحقيقة التي تريد أن تطمس معالمها.
حرية السياسي فهي توجب عليه أن ينسى الخطر على نفسه إذا وقف في طريقها.
حرية رجل الأمن الذي لا يدعها تخرب ما تخرب وتقتل من تقتل، وهو ناظر إليها.
حرية الصحفي فهي تملي عليه ما يكتب ولا تبالي أن تنسف عليه صحيفته وما فيها إذا اجترأ على مخالفتها.
حرية كل مصري عامل في بلاده ممن تفرض عليهم الإتاوات وتنذرهم في أرواحهم ومرافقهم كلما خرجوا على طاعتها.
ليس لحرية من هذه الحريات حساب عند أولئك الزعانف الذين ركبوا رؤوسهم وغلوا في طغيانهم وخيل إليهم أن عباد الله من دونهم همل مباح لا حق لأحدهم في رأي أو حياة إلا بإذن منهم.
ولم تكن حرية من هذه الحريات قائمة اليوم لو لم تؤخذ هذه الطغمة في إبانها بالحزم الذي أحبط كيدها ورده إلى نحورها، ولو لم يكتب الله السلامة لهذه البلاد من شرورها وقد أوشكت أن تعصف بكل ما كسبته في حاضرها وماضيها وكل ما اعتدته لمستقبلها، وكل ما ادخرته لأعقابها.
لم تكن حرية من هذه الحريات قائمة في يومنا هذا حتى تلك الحرية التي تأذن لقوم من العابثين أن يتباكوا على الحرية، لأن القانون يقيد الجريمة ولا يقيد الأمناء العاملين على منعها واستئصال شأفتها.
ولو لم تمتنع الجريمة لعلهم كانوا يذرفون الدموع من عيون لا تبصر نور النهار، ولا تحمد للجريمة انطلاقها من عقالها.
إن الذي امتنع من شر المجرمين قد امتنع وجازت المغالطة فيه لأنه لم يقع.
فهل من مغالطة تجوز فيما تحقق من تدبير المسؤولين الذي أفلح اليوم حيث لم يفلح قط تدبير قبل اليوم؟
أي قانون تضيق مصر بأحكامه إذا كفل لها حماية أبنائها في معاهد العلم والدراسة؟
أي شيء يبلغ من تقدير مصر ما يبلغه حرصها على الجيل الناشئ من أبنائها وأحفادها!
لقد انقطع أذى المفسدين عن هذه الذخيرة الغالية منذ طوِّق نشاط أولئك المفسدون، وتعقبهم المسؤولون بما ينبغي لهم من الحيطة والوقاية.
لقد مضت أربعة شهور ولم يرتفع للفتنة صوت في معهد من معاهد التعليم.
فهل كانت تمضي أربع ساعات، ولا نقول أربعة أيام أو أسابيع، على غير فتنة في تلك المعاهد من أقصى القطر إلى أقصاه؟
إن المغالطة تجوز في كل أثر من آثار الوقاية إلا في هذا الأثر الملموس الذي لا ريب فيه.
وكل ما تفرضه الشرائع من الأحكام يسير في جانب هذه الغاية وحدها، من غير حاجة إلى غاية أخرى تضاف إليها.
فهل حرية المجرمين في العبث والفساد أغلى على العابثين المتباكين من مستقبل يضيع على عشرات الألوف، من ناشئة الأمة وعتاد الملايين من الآباء والأمهات؟
لكن الأمة بخير والحمد لله.
إنها بخير وستظل بخير ما دامت تعرف واجبها كلما جد الجد ووضح اليقين الذي تترفع به عن مهازل الأهواء.
هي بخير ما دام فيها حاكم يعرف واجبه، وقاض يعرف واجبه، ونائب يعرف واجبه، وحارس أمن يعرف واجبه، وجمهور يعرف واجبه، وإن يقظة الجمهور هذه لأدعى ما يدعونا إلى الغبطة والارتياح في هذه الحملة المباركة على عناصر الإجرام. لأنها هي الضمان لسلامة الأمة قبل كل ضمان، وبعد كل ضمان.
بل نحن نلمس دلائل الخير في يأس المجرمين وقد ظهرت عليهم عوارضه كما ظهرت عليهم عوارض التهافت والانخذال؛ ولعلهم يعلمون اليوم قسوة المسخرين المستأجرين عليهم، فهم لا يبضون لهم بالعطاء إلا على مقدار التهور اليائس الذي يدفعونهم إليه. فلا رحمهم الله من يأس مسخريهم ولا رحمهم الله من يأس يناط به رجاء أمة مبتلاة بهم، وهي حقيقة أن تبلغ رجاءها من القضاء عليهم بإذن الله عما قريب.