أفضى صاحب المعالي وزير الدولة الأستاذ مصطفى مرعي بك بحديث إلى بعض الصحف تكلم فيه عن المذاهب الهدامة فقال ما فحواه أنها فكرة تحارب بفكرة.
ومما لا شك فيه أن الفكرة إنما تحارب بالفكرة كما قال الأستاذ الألمعي وزير الدولة، لأن الاكتفاء في محاربة الفكرة بمجرد الزجر والمصادرة قد يعززها ويقويها ولا يفلح بأية حال في استئصالها والقضاء عليها.
ومما لا شك فيه أيضًا أن بعض شبابنا المصريين الذين تيسر للدعاة أن يستميلوهم إلى الشيوعية أو إلى بعض الحركات الدينية قد مالوا إلى تلك المذاهب عن اقتناع بصحتها وفائدتها للأمة المصرية أو للإنسانية عامة.
ومن هؤلاء الشبان من استماله الدعاة إلى الشيوعية خاصة من جانب الرحمة والعطف على المستضعفين، لاعتقادهم أن الشيوعيين قوم ينصفون الضعفاء والفقراء وينشدون الخير والإصلاح.
ومن هؤلاء الشبان من استماله الدعاة إلى الحركات الدينية، باستثارة الحماسة التي طبع عليها الشباب وتوجيهها إلى غير وجهتها القويمة.
فنشر الفكرة الصحيحة هو العلاج الناجع — بل العلاج الوحيد — لهداية هؤلاء الشبان المضللين.
ونعتقد أن هذا العمل — ونعني به نشر الفكرة الصحيحة عن المذاهب الهدامة — ليس بالعمل العسير على الدولة المصرية ولا على ذوي الآراء من المصريين. لأن كشف الأخطاء الفكرية في تلك المذاهب أهون شيء على من عرفها من مصادرها، وأهون شيء على من أخلص النية في طلب الوصول إلى حقيقتها.
ويكفي تلخيص الشيوعية كما شرحها أئمتها في عهد كارل ماركس ليفهم المخدوع فيها أنها نقمة على الناس أجمعين، وأنها لا تنصف الضعفاء أو الفقراء ولا توجه جهودها إلى غاية قبل هدم الحضارة الإنسانية وتمزيق كل ما فيها من أواصر الأخلاق والآداب.
ويكفي تعريف الشباب بسوابق أعداء الإسلام في السعي إلى هدمه من طريق الجماعات السرية ليفهم أن هذه الحركات الدينية المزعومة لن تحقق الغرض الذي يروج له أصحاب المطامع باسم الدين والعقيدة، وأن غرضها الوحيد الذي تحققه بغير شك هو تقويض الدول الإسلامية وتمكين أعدائها من رقابها.
وهنا تنجح الفكرة في مكافحة الفكرة، وتصلح العقيدة الهادية لانتزاع العقيدة المضللة من ضمائر ضحاياها من الشبان المخلصين في طلب الحق والصواب.
ولكن كم هؤلاء من هؤلاء؟
كم هؤلاء المخلصين بالقياس إلى هؤلاء المروجين للمذاهب الفاسدة من سوء نية وقلة اكتراث لمصير الأمة أو مصير الإنسانية؟
الذي نعتقده أن المخلصين من المشتغلين بتلك الدعوات لا يبلغون عشر المشتغلين بها عن دخل في النية أو فساد في الطوية.
فالمذاهب الهدامة عند الأكثرين من المشتغلين بها في هذا البلد — وفي غير هذا البلد على ما نرجح — هي تجارة أو مخرج لما في نفوس الأشرار من نزوع إلى الأجرام وانتهاك للعرف والخلق قبل انتهاكهم للشريعة والقانون.
هي تجارة يعمل فيها من خلقوا بطبيعتهم غير صالحين للعمل النافع المنتظم، يندفعون إليها على قدر ما يطمعون فيه من ربحها وضجتها، ويحجمون عنها كلما رجحت كفة الخسارة على كفة الربح والضجة.
وهنا لا تجدي الفكرة شيئًا غير السخرية واللجاجة في الشر والفتنة، ولا يستغني المجتمع عن سلطان القانون لترجيح كفة الخسارة على كفة الربح والضجة عند من لا يحسبون حسابًا لغير المنفعة واللهو في هذه الأمور الجسام.
على أن هؤلاء المتجرين بالشغب والضجة قد يتفق لبعضهم أن يتورطوا في هذه المجازفات عن جهل بجميع عواقبها، ولكنهم يخشون قادتهم ومسخريهم لأنهم يرهبونهم بالعدوان أو يهددونهم بالتبليغ عنهم، ويستمسكون عليهم بوثائق مكتوبة يعترفون فيها على أنفسهم بما يوجب العقاب، فلا يجسرون على الافلات من شباك أولئك المجرمين وإن رغبوا فيه.
هؤلاء لهم شأن غير شأن زملائهم المطبوعين على المتاجرة بالشغب والمجازفة، لأنهم قد يعودون إلى العمل النافع في المجتمع إذا أمكن إنقاذهم من الشر الذي تورطوا فيه عن جهل بمداه وسوء عقباه.
أما الذين ينقطع الرجاء في صلاحهم — أو يكاد أن ينقطع — فهم أولئك الذين يقبلون على المذاهب الهدامة لأنها المنفذ الطبيعي لما في طويتهم من حب الشر والأذى واعوجاج الذهن والشعور.
إن الفكرة لا تجدي في محاربة المذاهب الهدامة عند هؤلاء المجرمين — لأن الآفة معهم أنهم مجرمون أولا وأنهم يميلون بعد ذلك للهدم والإفساد لأنهم مجرمون.
فالإصلاح المطلوب لهم هو إصلاح طبيعة لا إصلاح فكرة.
وقبل إصلاح هذه الطبيعة يضيع الجهد معهم عبثًا في التفهيم والتعليم، ما لم يكن تفهيمهم وتعليمهم متجهين إلى تقويم الطباع وتهذيب الأخلاق، وليس قصارى الأمر فيهما أنهما تفنيد للفكرة الخاطئة في هذا المذهب أو ذاك.
فإذا صلحت طبائع هؤلاء المجرمين فلا حاجة بهم إلى الكلام على خطأ الأفكار والمذاهب. لأن العلة في انتمائهم إلى تلك الأفكار والمذاهب أنهم سيئون، وأن السيء لا يميل إلا إلى المذهب السيء الذي يوافقه ويملي له في طبيعة السوء. فإذا زالت هذه العلة فلا حاجة به بعدها إلى دعوة أو اقناع.
فمن الحسن إذن أن نستعد بالفكرة الصالحة لتقويم الفكرة الفاسدة، ولكننا نضع الفكرة في غير موضعها إذا اعتمدنا عليها حيث لا ينبغي أن نعتمد على شيء غير عصا القانون أو عصا التأديب.