أعترف بأنني لم أقرأ خطاب «الرئيس الجليل» الأخير، وأنني لم أقرأ له خطابًا كاملًا منذ عدة سنين. لأن قراءة خطبه علمتنا أن كلام هذا الرجل أحق الكلام بالإهمال والازدراء، وأنه كلام لا يستند إلى عقل ولا يقوم على دليل ولا يرتبط بموضوع ولا يختلف بين سنة وسنة ولا في موقف عن موقف، ففي وسعك أن تؤلف خطاب النحاس باشا الذي سيلقيه بعد عشرين سنة، أو أربعين سنة، أو مائة سنة، فإذا هو هو الخطاب الذي سمعته أمس وتسمعه اليوم، ويتردد في القاهرة والإسكندرية وأسوان، ولا يخرج في مغزاه عن حكاية واحدة: هي حكاية وكالته عن الأمة المصرية واغتصاب الحكومة القائمة للحكم واقترافها لكل مأثمة وعصمتها من كل صواب!
فهذا «الرئيس الجليل» وكيل للأمة المصرية في سنة 1929 وعدتها نحو خمسة عشر مليونًا، ووكيل لها في سنة 1949 وعدتها نحو عشرين مليونًا، لأن المصري يوكله قبل أن يولد وهو في ظهر أبيه وبطن أمه … ولأن توكيله السرمدي مكتوب على بياض إلى آخر الزمان!
أما الوزارات المصرية التي تقوم في الحكم بغير رضاه، بل بغير رئاسته، فهي مخطئة على الدوام، مخطئة في كل شيء، مخطئة فيما عملته بالأمس وما تعمله اليوم وما ستعمله بعد أيام أو أعوام!
ما حاجتك إلى قراءة كلام لم يخرج قط عن هذا المعنى ولا يمكن أن يخرج عنه ما دامت حكاية الوكالة هي حكاية الوكالة، وما دامت أحدوثة الاغتصاب والعصمة من الصواب هي أحدوثة الاغتصاب والعصمة من الصواب؟
لهذا لم أقرأ خطاب «الرئيس الجليل» الأخير، ولم أقرأ خطابًا كاملًا له منذ سنين، ولا أحسبني أقرأ له خطابًا كاملًا بعد الآن.
وكل ما هنالك أنني اكتفيت بالعنوان الطويل الذي نشرته صحيفته بالخط العريض وقال فيه عن العامل والفلاح «أنهما ما زالا يقاسيان أهوال الفقر والجهل والمرض …».
فسألت: ما زالا يا ترى منذ متى؟ أتراهما كانا في سنة 1944 — في عهد وزارة الرئيس الجليل — غنيين عالمين صحيحين فعاد إليهما الفقر والجهل والمرض هذه الأيام؟
على هذا الوجه وحده يستقيم كلام الرئيس الجليل، وعلى غير هذا الوجه دون غيره لا يستقيم له كلام.
ونحن على هذا الوجه نسأل الرئيس الجليل عن إنسان واحد كان في زمانه شبعان ريان فأصبح يجوع ويظمأ في هذه الأيام.
نسأله عن إنسان واحد طبعًا من غير الهيئة الوفدية والعصابة النحاسية.
فإن الإحصاء الذي لا نستطيع أن ننكره يكذبنا إذا قلنا أن هؤلاء لم يجوعوا بعد شبع في عهد الوزارة الزعامية الأمينة.
إن الإحصاء الذي يسجل ثرواتهم من قبل عهد الوزارة الزعامية ويسجل ثرواتهم من بعدها يكذبنا إذا نحن أنكرنا الجوع بعد الشبع على أناس كثيرين من هؤلاء المحرومين المساكين!
ولكننا نستثني هؤلاء ولا بد من استثناء هؤلاء؛ لأننا إذا تحدثنا عن الشبع فليس الشبع من دماء الفقراء والمعوزين هو الذي نعنيه، وليس الشبع من أرزاق التموين هو الذي نحصره ونحصيه، وإنما هو الشبع من الرزق الحلال والعمل المشروع.
ولسنا نتحدى الرئيس الجليل بأكثر من إنسان واحد في هذه البلاد كان شبعان في عهده من الرزق الحلال والعمل المشروع فأصبح جائعًا في هذه الأيام.
نتحداه أن يذكر إنسانًا واحدًا لا يمكن — إذا وجد — أن يقابله العهد الحاضر بعشرة مثله شبعوا بعد جوع واطمأنوا بعد خوف واستراحوا من زبانية الاستغلال بعد عناء.
إن الرئيس الجليل على حق إذا كان رثاؤه في خطابه لأولئك الشبعانين الريانين في زمانه من أقوات الفقراء وأرزاق التموين.
ففي زمانه كان الواحد من هؤلاء يستولي على الستين أردبًا من الحبوب لإطعام الدجاج، ومن حوله ستون ألف إنسان لا يملأون الأكف بحفنة من تلك الحبوب.
وفي زمانه كان الواحد من هؤلاء يستولي على الأطنان من الزيوت المعدنية لتزييت الأنابيب الرصاصية في داره، يوم كانت قطرات النفط أغلى وأندر من قطرات العطور.
وفي زمانه كانت أكياس السكر توضع في ذمة هذا العضو أو ذاك من أعضاء اللجان النحاسية وهو في حياته لم يعرف تجارة السكر ولا غيرها من تجارات التموين.
وفي زمانه كانت بطاقات الغذاء والكساء تباع وتشترى ثم لا يستطيع صاحب البطاقة أن يحصل بعد شرائها على نصف ما فيها إلا إذا بذل فيه ضعف ثمنه، لأن الزعامة الأمينة تريد أن يشبع أناس كثيرون ممن يحزنها اليوم أنهم يجوعون.
ومحزن للزعامة الأمينة بحق أن يجوع هؤلاء بعد شبع وأن يتلمظوا على ذلك الطعام الشهي فلا يجدوه ولا يجدوا باب الرجاء مفتوحًا إلى المطبخ المهجور.
لكننا لا نسأل عن هؤلاء، ولا نأبى على الزعامة الأمينة أن تذكرهم بالرثاء والبكاء.
إنما نسأل عن ضحاياهم المعدودين بالمئات والألوف في عواصم القطر وزوايا الريف.
نسأل عن واحد من هؤلاء الضحايا: واحد فقط يذكره الرئيس الجليل كان شبعان فجاع وكان مطمئنًا فخاف، وكان موضع العناية في أيامه فخذلته العناية في هذه الأيام.
عن واحد فقط نسأل الزعامة الأمينة، وعن واحد فقط تعجز الأمانة الصادقة وتعلم أنه هو التحدي الذي يلجم المبطلين ويخرس الكاذبين.
ولكن الزعامة الأمينة ستمضي بعد اليوم كما مضت قبل اليوم تلوك الهراء وتخلط الأباطيل وتدعي الوكالة من مواليد الغيب وتتهم على بياض وعلى سواد، وتقول وتعيد، ولا تستحق أن يقرأ الناس شيئًا من قولها المعاد لأنه قد تردد كطيلسان ابن حرب حتى أمله الترداد.