من القضايا التي تعزز كثيرًا من الملاحظات التي سجلت عن مجرمي الإرهاب وطلاب المؤامرات قضية التآمر على قلب نظام الدولة التي صدر الحكم فيها أخيرًا بعقوبات تتراوح بين السجن ثلاث سنوات وست سنوات.
والمعروف عن المتآمر من هذا القبيل أنه دائمًا إنسان معتل التكوين يظهر اعتلال تكوينه في جماح الطبع والتواء التفكير وانحراف الضمير.
ولكن الذي ظهر بصفة خاصة في هذه القضية أن الحركة كلها مغامرة نزق غير محكوم يغذيه غرور لم تهذبه التربية، بل لعل التربية الأولى هي التي أنشأته ونفخت فيه.
فأول ما يلفت النظر من شأن المتهم الأول في القضية هو اسمه. وهو «مصطفى كمال».
تسمية تدل على شغف بالانقلاب ومن اشتهروا بأنهم من أبطاله في العصر الأخير.
ومما لا شك فيه أن مصطفى كمال الصغير قد نشأ وهو يعلم سبب هذه التسمية أن يقال له فيما يقال أنه مرجو لحركة من هذا القبيل، وقد يقال له أيضًا أن الإصلاح السياسي يتوقف على هذه الأساليب السريعة التي تعتمد على الفعل ولا تعتمد على الكلام.
ولا يحتاج الصغير الذي ورث شيئًا من دفعة هذه الآراء إلى إغراء كبير بعد ما تهيأ له من الطبع ثم تهيأ له من الإيحاء.
وإذا لم يكن في الأمر لبس من الأسماء المتشابهة ففي القضية متهم آخر قد نشأ وهو يستمع إلى أحاديث الانقلاب وأبطاله كما يتصورهم الجاهلون بتاريخ البطل التركي الصحيح.
عرفت والد هذا المتهم في الصعيد ثم لقيته في القاهرة. ويحضرني من أخلاقه أنه كان ينحرف في السياسة المصرية دائمًا إلى كل قلة مشاغبة متشبثة باللدد والعصبية.
فإذا انشق فريق من الهيئة التي ينتمي إليها فهو على التحقيق مع أقل الفريقين وأشدهما لجاجًا في العنف والعصبية، وكان على هذا من المتهوسين إعجابًا بمصطفى كمال عن جهل بحقيقة أعماله وقلة دراية بخططه وأفكاره.
وقد لوحظ من دراسة أطوار المتآمرين الذين يندفعون في أمثال هذه المغامرات أنهم لا يفهمون ما يصنعون ولا يصدرون فيه عن معرفة وروية وإحاطة بتفصيلاته وعواقبه التي تسوقهم الحوادث إليها طائعين أو كارهين، وكل ما في الأمر من إغراء لهم هو أنه مغامرة تطاوع ما في نفوسهم من طبيعة النزق وترضي ما يساورهم من الغرور.
فمن خلالهم المعروفة العجز عن التصور والعجز عن ربط النتائج بالمقدمات بل ربما تأدى أحدهم من المقدمة إلى نقيض ما ينبغي أن تؤدي إليه.
ويظهر ذلك واضحًا في القضية التي نحن فيها من جهل المتآمرين كل الجهل بتاريخ مصطفى كمال ومن إصرارهم على محاكاة هتلر وموسوليني والحاكمين بأمرهم في اليابان بعد أن فشلوا أقبح الفشل في تجاربهم المتعددة وبعد أن جاء فشلهم هذا لاحقًا لفشل أمثالهم قبل سنين.
مصطفى كمال لم يحرص قط في خططه وتدبيراته على اجتناب شيء كما حرص على اجتناب الإخلال بحكم واحد من أحكام الدستور والنظام.
فاستقال من وظيفته في الجيش قبل إعلانه المخالفة للحكومة القائمة في الآستانة مع نواب مجلس المبعوثين الذين استطاعوا الإفلات من قبضة الحلفاء ثم طالب بإجراء الانتخاب لمجلس المبعوثين الجديد فاتفق النواب المنتخبون على تأييده وإقرار مقاومته الوطنية، ثم اعتمد على المجلس الوطني الكبير في أنقرة لأن حكومة الآستانة لا تملك التعبير عن مشيئة الأمة التركية ولا تقوى على الدفاع الشرعي في مواجهة المغيرين على الأناضول بقوة السلاح.
فمصطفى كمال لم يحرص على شيء كحرصه على التزام حدود الدستور والنظام ولم يكن قط في حالة كالحالة التي تخيلها مقلدوه عن جهل ورعونة. إذ كان عمله شرعيًّا في حالة الدفاع الشرعي بموافقة الأمة ونوابها دون أن يشذ منهم واحد مطلق الحرية يملك التعبير عما يراه.
والعجز عن التصور هو الذي سول للمتآمرين المغامرين أنهم يعملون على سُنَّة هذا البطل وهم يجهلون ما عمل ويجهلون ما تعمده وتوخاه في كل خطوة من الخطوات.
أما العجز عن ربط المقدمات بالنتائج فليس أدل عليه من محاكاة هتلر وموسوليني وأمثالهما بعد الحرب العالمية.
فالتجربة التي ثبتت مرات بعد الحرب العالمية هي أن «الدكتاتورية» التي من هذا القبيل فشل ذريع ونكبة على القائمين بها من الرعاة والرعايا على السواء.
فإذا كانت هناك نتيجة معقولة لتجارب العصر الحاضر فهي العدول عن الخطة التي ثبت إخفاقها وثبتت جنايتها على القائمين بها في كل وطن وأمة، وبخاصة حين نذكر الفارق بين طاقتنا وطاقة غيرنا ونخرج من هذه المقارنة بيقين لا شك فيه أننا لا نستطيع — مهما فعلنا — أن نزيد على النازيين والفاشيين والمغامرين اليابانيين بالقوة ولا بالعدد ولا بالمال ولا بالفرص السياسية.
ولكن الكلام عن النتائج المعقولة عبث مع هذه الفئة من المتآمرين المتغامرين لأن المسألة كلها معهم هي مسألة اندفاع غير محكوم يطاوعونه بمقدار ما يرضي فيهم من النزق والغرور.
ولقد أنصف قضاؤنا كل الإنصاف بما لاحظه في تقدير العقوبة من اعتبارات كثيرة.
فإن المحكوم عليهم في هذه القضية مسؤولون ولا شك عن جريمتهم الوبيلة ولكنهم مستحقون ولا شك أيضًا لكثير من الرفق والرأفة لأنها كما رأينا جناية الآباء وجناية العجز عن التصور وحسن التقدير.