الكاتب: عباس محمود العقاد
الناشر: مجلة الكتاب
تاريخ النشر: يوليو 1949
الوطنية كما نفهمها اليوم شعور حديث، لا نظن أنه يرجع إلى أكثر من مائتي سنة.
ولكن الناس لم يخلوا قط من شعور يماثل الوطنية الحديثة، فكانوا ينتمون تارة إلى القومية، وتارة إلى الدولة، وتارة إلى الجامعات التي تقوم على العنصر أو الاعتقاد.
وكانوا في هذه الأحوال يعرفون «الوطنية» بمعنى العاطفة التي تربط الإنسان بمسقط رأسه وبيئة أهله ومهد نشأته وشبابه.
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
|
ولبست ثوب العمر وهو جديد
|
فإذا تمثَّل في الضمير رأيته
|
وعليه أغصان الشباب تميد
|
أما «الوطنية» كما نفهمها اليوم، فلم تكن معروفة قبل العصور الحديثة، ولم يكن ميسورًا للناس أن يعرفوها بهذا المعنى قبل هذه العصور.
لم يكن ميسورًا — كما قلنا في كتابنا عن «أثر العرب في الحضارة الأوروبية» أن تنشأ الوطنية بمعناها الحديث «قبل القرن الثامن عشر أو قبل الأطوار الاجتماعية التي تقدمتها وكانت ممهدة لظهورها وانتقالها من حيِّز الغرائز المشتركة إلى حيز الصلات الروحية والثقافية التي ينفرد بها الإنسان في مجتمعاته. لأن هذه الأطوار كانت تناقض الوطنية في بعض الأحوال وكانت تخفيها في أحوال أخرى، وكانت على الجملة خطوات سابقة لا بد منها قبل التطرق إلى الخطوات التي تليها. فكان لا بد من تطور عهد الإقطاع قبل شعور الإنسان بوطنه في نطاقه الواسع ومصالحه المتشابكة. لأن انتماء الناس إلى إقطاعات متعددة في قطر واحد يربطهم بضروب شتى من الولاء للسادة المتعددين الذين يسيطرون عليها، ويعودهم ضروبًا من المحالفات والمخاصمات تتغلب فيها الزمرة والطائفة على الأمة أو الدولة نفسها في بعض الأمور.
وكان لا بد من تطور الجامعات الدينية قبل الشعور بمعنى هذه الوطنية. لأن الإنسان يرضى في الجامعات الدينية أن يحكمه من ليس من أبناء وطنه لاتفاق الحاكم والمحكوم في العقيدة والمراسم الروحية، ويكره أن يحكمه من لا يدين بدينه ولو كان من بلده وجواره، ولا يزال كذلك حتى يتعذر حكم الأوطان المختلفة بحكومة واحدة قائمة في مراكزها البعيدة عنها، لاختلاف المرافق واختلاف النظر إلى الحقوق والتبعات ونشوء الطبقات الاجتماعية التي تتنافس في الأوطان المتعددة وإن جمعتها علاقة وثيقة واحدة.
ولما تطور عصر الإقطاع وعصر الجامعات الدينية معًا، أو على التعاقب بين جيل، قام من بعدهما سلطان الملوك المطلقين الذين ساعدتهم قوتهم المطلقة على قهر أمراء الإقطاعات والاستئثار بسلطان العرش وما يرتبط به من الدعاوى والحقوق. فكانت قوتهم كفيلة لهم ببسط كلمتهم على رعاياهم وحصر فرائض الولاء في أشخاصهم أو في أسرتهم، وكانت المملكة سابقة للأمة أو سابقة بطبيعة الحال للحقوق التي تنشأ من الاعتراف للأمة بالسيادة على بلادها. ولا يفهم الوطن على أنه بلاد الأمة ومناط سيادتها قبل أن تصبح الأمة مصدرًا للسلطان كله …».
***
هذه هي الخطوات التي لم يكن منها بد قبل ظهور الوطنية بمعناها الذي أخذ الناس يفهمونه منذ القرن الثامن عشر، وإن كانوا قد ذكروا الوطن والوطنية قبل القرن الثامن عشر بعدة قرون.
كذلك كان للناس في العصور الأولى «عالمية» غير هذه العالمية التي نتحدث بها في الزمن الأخير.
كان «المواطن العالمي» موجودًا قبل المواطن العالمي الذي نتحدث عنه أحيانًا في هذا القرن العشرين.
كان المواطن العالمي قديمًا إنسانًا ليس له وطن يستقر فيه أو يحب أن يستقر فيه وإنما كان شعاره هو شعار أمثاله في هذه الدنيا الواسعة، وهو: «بلاد الله لخلق الله!»
ومثال هؤلاء كانوا بين خليع تخلى عنه قومه، أو شريد ليس له قوم يحرصون على نسبته إليهم، أو «درويش» قطع علاقته بوطنه وبكل وطن ينتقل إليه، فهو ضيف طارئ على جميع الأوطان.
أما «المواطن العالمي» في القرن العشرين فمختلف كل الاختلاف من ذلك المواطن العالمي الذي يرادف حينًا معنى الخليع، وحينًا آخر معنى الشريد، وأحيانًا أخرى معنى الدرويش المستضاف على بلاد الناس، حيث طابت له الرحلة أو طاب له المقام.
فالمواطن العالمي في القرن العشرين إنسان له وطن يغار عليه، ولكنه رشيد كريم في الغيرة على وطنه، لأنه يعمل لمصلحته الكبرى، ويعلم أننا في زمن لا تنفصل فيه المصلحة الكبرى لوطن من الأوطان عن مصلحة العالم كله، أو مصلحة بني الإنسان في جميع الأقوام والأوطان.
ويدين «المواطن العالمي» بالوطنية العالمية لأنه يدين اليوم بحقيقة لا شك فيها، وهي أن سلام وطنه موقوف على سلام العالم بجميع أجزائه وأنحائه، سواء كان منسوبًا إلى أمة صغيرة فقيرة أم كان منسوبًا إلى أمة قد بلغت الغاية في القوة والثراء.
فقد كان الوطني الفاتح مفهومًا غير مستغرب يوم كان في وسع هذه الأمة أو تلك أن تنفرد بالصولة والرخاء بين أمم العالم وشعوبه، بل كان «الوطني» الفاتح في ذلك الزمن مفخرة من مفاخر النخوة والبطولة لأنه يسعى في جلب الكسب لوطنه ولا يلام على الخسارة التي تصيب غيره.
ولكنه في هذا الزمن مستغرب غير مفهوم، وليس في عدوانه مفخرة ولا نخوة، سواء كان من أبناء الأوطان الصغار، أم كان من أبناء أكبر الأوطان.
لأن الوطني الذي ينتمي إلى وطن صغير خليق أن يمقت العدوان الذي يكون لا محالة بعض ضحاياه، ولا يطمع يومًا في خيره وجدواه.
أما الوطني الذي ينتمي إلى أكبر الأوطان ففي وسعه أن يفتح الأقطار ويقهر أبناءها ويستعد للفتح والغلبة بالمال الكثير والسلاح الكثير والجند الكثير، ولكنه ليس في وسعه ولا في وسع أعوانه على الفتح والغلبة أن يجني لنفسه أو يجني معهم ثمرة أو يطمع في عوض؛ بل ليس في وسعه أن يتقي الغرم الذي يصيبه من جراء انتصاره، ويتخلى عن التكاليف التي تلقيها عليه صدارته في مجالس الأمم وعلاقته الواسعة بأطراف العالم المعمور. فهو الذي ينفق على المغرومين ويعطيهم من عنده ما يدفع عنهم غائلة الفاقة والمرض والعجز عن موارد المعيشة، وهو المسؤول أن يحول بين هؤلاء المهزومين وبين الانطلاق مع اليأس والفوضى إذا حالت الهزيمة بينهم وبين مذاهب الرجاء.
فليس «المواطن العالمي» هو الذي ينسى بلده أو يؤثر عليه بلاد أناس آخرين، ولكنه هو الوطني الغيور على وطنه عن رشد في العقل وكرم في الطوية، ومن الرشد والكرم أن يحرص على سلام الأمم قاطبة ليضمن السلام لأمته ويعفي غيرها من ضرر يصيبهم ويصيبه ولا منفعة له ولا لهم فيه.
وستظل «الوطنية العالمية» فكرة يفهمها من يحب أمته ويحب الأمم معها، وتظل ضرورة يذعن لها السياسي الذي يخشى مغبة الغفلة عنها والاجتراء على حدودها، ولكنها لن تصبح «عاطفة» وجدانية بالفكرة والضرورة، بل ستصبح كذلك بالعادة التي يألفها الناس أولًا وهم يفكرون في أسبابها، ثم ترسخ ألفتها في طباعهم بغير تفكير في تلك الأسباب …
ويومئذ يصح أن يقال إن «المواطن العالمي» قد وجد على الكرة الأرضية كما وجد المواطن القومي من قبله. لأنه يشعر بحب العالم شعوره بحب القريب والصديق والأليف الموموق.