تلقيت من صديقي العالم الفاضل الدكتور حسين همت كلمة عن المرحوم الدكتور علي فهمي الزناتي يقول فيها: «إن مصر قد فقدت بوفاته طبيبًا من أفضل أطبائها» ثم يقول: «ويدهشني أن فقد رجال العلم بيننا لا يلتفت إليه كما يلتفت أحيانًا لفقد رجل من رجال السياسة أو نابغ من نوابغ الفنون».
ومضى الدكتور همت يذكر بعض صفات العالم الفقيد، ومنها أمانته المفرطة في عمله الذي لا رقابة عليه لغير ضميره، ومراجعته في كل مادة يطلب منه تحليلها حتى يستوثق من صلاحها لإظهار النتيجة التي يطمئن إليها.
«ففقده لا يحزننا لعلمه ونبوغه وهما جديران بكل تقدير، بل يحزننا لأنه العالم النابغ الإنسان … وعلى سبيل المثال أذكر أنني دعوته بين أعماله الكثيرة إلى زيارة مريض يقيم على مسافة من القاهرة، وأشرت في دعوتي إلى رقة حال المريض، وأنه لا طاقة له — بتكاليف الانتقال والتحليل راجيًا منه أن يقنع بنصف ما يتقاضى من غيره، فذهب إليه في مكانه البعيد وتطوع بجميع التكاليف ولم يقبل منه شيئًا في جميع عياداته وتحليلاته …».
***
وأقول في الإجابة عن ملاحظات الصديق العالم الفاضل أنه على حق في دهشته وإن كنت لا أعزو السكوت عن تقدير الطبيب الفقيد إلى إهمال أو نقص في التقدير.
فالذي نعتقده أن نكبة الإنسانية الكبرى في زماننا هذا ترجع إلى فقدان ثقة الناس بما في الطبيعة الإنسانية من خير وكرم — ومن ثم إلى قيام الشك والطمع مقام الثقة والتعاون في علاقات الإنسان بالإنسان.
وليس أنفع في إصلاح هذه الحالة من رد الثقة إلى النفوس بما في الطبيعة الإنسانية من الخير والرحمة.
ولكن هذه الثقة لا تسترد بالخطب والمواعظ ولا بالبحوث النظرية في الأخلاق ومحاسن العادات، لأن أبلغ الخطب والمواعظ وأصح البحوث والنظريات لن تفعل في توطيد الثقة بطبيعة الإنسان بعض ما تفعله قدوة عملية واحدة يراها الناس بينهم، وتفرض عليهم — بمجرد وجودها — أن يتمثلوها وينهجوا في علاقاتهم ومعاملاتهم على نهجها، ويرجعوا إلى أنفسهم باللائمة إذا فاتهم أن يتشبهوا بها وهي حقيقة ماثلة لهم لا يشكون في وجودها ولا في إمكان العمل على مثالها.
والطبيب الفقيد — الدكتور الزناتي رحمه الله — كان من هذه القدوة العملية في الرعيل الأول بين نوابغ الأطباء خاصة، وبين نخبة العلماء على وجه التعميم.
ولم أكن أعرفه على كثب، ولكن شهادة الدكتور همت له ولعلمه وشمائله كافية وافية، وكل ما سمعته عنه بعد وفاته دليل على تقدير عارفيه وشعورهم بفضله وعظم الخسارة فيه. ومنهم من علمت منه أنه رحمه الله كان يستعيد طلب «العيِّنة» التي يراد تحليلها مرات، وأنه كان يتهلل إذا ظهرت النتيجة مبشرة بسلامة المريض والأمل في شفائه، وأن ما رواه الدكتور همت عن سماحته في الجزاء المادي عادة قد جرى عليها مع الكثيرين من المحتاجين إلى المال والعلاج.
هذه القدوة علاج نفساني لآفات الضمائر في عصرنا هذا تضاف إلى أنفع المزايا الطبية التي ينتفع بها من يشكون مرض الأبدان والأعضاء.
ويضاعف قيمة هذه القدوة العملية أن الطبيب الفقيد رحمه الله كان في مقام التعليم الذي يتطلع إليه مئات من الشبان المتعلمين، فهو على غير قصد منه قادر على غرس مبادئ الخير في نفوسهم، وانتزاع خوالج الشك من ضمائرهم وتكليفهم في صمت ورضا أن يصنعوا مثل صنيعه، لأنه كما يرون صنيع مستطاع.
وبودنا لو كان عندنا من أمثال الطبيب الفقيد كثيرون بين طبقة العلماء المعلمين.
لأننا لا نعرف تربية مثالية أصلح من تربية الطالب على يدي الأستاذ الذي يراه في كل لحظة قدوة شاخصة أمام عينه.
ولكننا نخدع أنفسنا إذا قلنا أن هذا الطراز من العلماء المعلمين كثير عندنا، أو أنه على قلته يغنينا إلى حين.
فالواقع أن ندرته هي التي تشيد بفضل العالم الفقيد، وهي التي تضاعف الشعور بفقده والحزن عليه.
وهي التي جعلتنا نقول أن الدكتور همت على حق في ملاحظاته، حيث لاحظ أن جمهورنا لم يشيع الدكتور الزناتي بما تعودناه في تشييع الساسة والمشهورين في عالم الفنون، من التقدير والتنويه.
إلا أننا لا نعزو هذا الفارق إلى تمييز الجمهور المصري بين أقدار الساسة وأقدار العلماء في ميزان التوقير والاعجاب؛ ولكننا نعزوه إلى فضيلة من فضائل العالم الفقيد تضاف إلى فضائله العلمية والخلقية، وهي أنه رحمه الله كان يعمل في نطاق العلم والتعليم، وكان من شأن هذا النطاق في راويته الهادئة ألا يعرض صاحبه دائمًا لأنظار العامة، كما تعرض السياسة والفنون عظماءها أمام أعين العارفين وغير العارفين.
ولكننا مع هذا نقول أن عصرنا هذا أحوج العصور إلى التنويه بكل قدوة عملية تعيد إلى الإنسان إيمانه بنفسه واطمئنانه إلى ضميره واعتماده على طبيعة الخير فيه.
وإننا من أجل هذا خليقون أن نتعرف مواطن الخير في كل علم وكل نبوغ.
فإن «العالم النابغ الإنسان» كما قال الدكتور همت أحق العظماء بالحب والإعجاب. لأنه يعطينا للحياة معنى تستحق من أجله أن نحبها ونحافظ عليها، وليس قصاراه أنه نافع كما ينفع العلم أو النبوغ.