من العادات التي أصبحت عندنا في حكم التقاليد المرعية أن ننظر إلى فصل الصيف كأنه موسم بطالة وانقطاع عن العمل.
ويجوز — بل يجب — أن تكون للفرد فترة بطالة في السنة يستريح فيها من أعماله. لأنه لا يستطيع العمل بلا انقطاع مع اتصال المواسم والأعوام، ولأن الراحة أعون له على متابعة أعماله واستئناف جهوده، ولأنه يستطيع تنظيم حياته على العمل في أوقات والراحة في أوقات.
أما الأمم فالبطالة في حياتها لا تجوز، ولا يتأتى لأمة من الأمم أن تنقطع كلها عن أعمالها المختلفة في موسم واحد. لأن أعمالها لا تنقطع لحظة واحدة على تعاقب المواسم والسنين، ولا تحتمل الأرجاء من وقت إلى وقت بغير إخلال بمصالحها الكبرى على الإجمال.
ونحن في مصر لا نرجع بتقاليد البطالة الحكومية إلى أكثر من سبعين سنة. لأنها في الواقع أثر من آثار الاحتلال.
فقد كانت الحكومة المصرية هي طائفة الرؤساء من الإنجليز، وكان في كل ديوان كبير أو صغير رئيس من هؤلاء الرؤساء، لم تخل منهم عواصم الأقاليم فضلًا عن القاهرة والإسكندرية.
وقد رتب هؤلاء الرؤساء الإنجليز أوقاتهم على البطالة أربعة شهور في كل سنة على الأقل، وهي الشهور التي تبدأ في الربيع وتنتهي عند أخريات الصيف، لأنهم يبرحون القطر في هذه الفترة ويحرصون على إبقاء الأعمال الحكومية الكبرى بغير تصريف إلى موعد عودتهم في أواسط الخريف.
وسرت عدوى الإجازات الصيفية التي تقضى خارج القطر إلى كبار الموظفين من المصريين. فأصبحت للإجازة في داخل اقطر مدة لا تزيد على شهر، وللإجازة في خارج القطر مدة تبلغ ثلاثة أشهر، وكاد الأمر أن يتحول إلى مظهر من مظاهر الوجاهة واللياقة … فلا يليق أن يسافر هذا الرئيس إلى الديار الأوروبية ويبقى الرئيس الذي يناظره في وطنه … كأنه لا يساويه في المكانة والاعتبار!
وهكذا نشأت عندنا تقاليد البطالة الصيفية في الأعمال الحكومية الكبرى!
أما الأمة المصرية فهي بمعزل عن هذه التقاليد. إلا من سرت إليه عدوى الوجاهة المصطنعة من الأعيان المتشبهين بكبار الموظفين. فإنهم نظروا إلى الرحلة الأوروبية بهذه النظرة التي لا شأن لها عند أكثر الناس باحتمال الجو أو بالرغبة في السياحة وتبديل الهواء.
ولكن الأمة المصرية في تاريخها العريق لم تعرف تقاليد البطالة الصيفية في أعمالها العامة. فإنها تزرع أيام الصيف كما تزرع أيام الشتاء. وقد كانت عاصمتها على عهد الفراعنة في أقصى الصعيد، وكانت أعمال الدولة تسير على انتظام بإشراف تلك العاصمة خلال الصيف والشتاء.
وقد وجب اليوم أن تتغير تقاليد عهد الاحتلال.
ومن نعم المصائب أن الحربين العالميتين قد جعلتا هذا التغيير يجري في مجراه شيئًا فشيئًا بغير تدبير. لأن قيود السفر حالت دون انتظام الرحلة الصيفية في موسم واحد يشترك فيه مئات بل ألوف من المسافرين.
فالصيف في عهد الحكومة الوطنية موسم عمل كسائر مواسم السنة بغير اختلاف.
ولا يجوز أن يتعطل خلاله عمل من أعمالنا القومية الكبرى، وإن جاز أن تحصل المناوبة بين العاملين في أوقات العمل وأوقات الفراغ.
والقدوة الحسنة ماثلة أمامنا في أعمال كثيرة تحتاج إلى الجهود الفكرية كما تحتاج إلى الجهود البدنية:
فأعمال الري لا تنقطع خلال موسم الفيضان.
وكذلك أعمال القضاء في السنتين الأخيرتين، وتضاف إليها واجبات فكرية ونفسية من أشق الأعمال على الموظفين المسؤولين عنها في كل موسم، وهي واجبات التحقيق وواجبات الحيطة لاتقاء الجرائم التي تهدد كيان البلاد على أيدي عصابات المجرمين ودعاة الفوضى والفساد.
وعندنا مشروعات قومية تتصل على التعاقب ولا تحتمل الإرجاء أو الانقطاع: منها مشروعات السنوات المعدودات، ومشروعات التسليح والتعليم والصناعة، ومشروعات الإصلاح الاقتصادي والإصلاح في شؤون المعيشة على الإجمال.
ومصر اليوم في عهد استقلال.
حكومتها في أيدينا، ونحن المسؤولون عنها وهي المسؤولة عنا.
فإذا جازت «بطالة الدولة» على عهد المستشارين والمفتشين من المحتلين فهي في عهدنا الحاضر لا تجوز.
ومن الواجب أن ننظر إلى فصل الصيف كأنه موسم من مواسم الأعمال القومية التي تتصل على الدوام مع تعاقب المواسم والأعوام … وإن جاز أن يستريح فيه آحاد الأمة ضمانًا لاستمرار عملهم في خدمة البلاد.