من الخطط المعروفة عن الدعاة الشيوعيين أنهم يحاولون جهدهم أن يدسوا لهم أصبعًا أو أصابع عدة في كل مؤسسة عامة تصلح لنشر الدعوة أو لتوجيه الآراء.
وفي مقدمة المؤسسات العامة التي يعنون بها نقابات العمال ومعاهد التعليم ومكاتب الصحافة والإذاعة.
وقد يقع موقع الغرابة عند بعض الناس أن يعلموا أن سماسرة الدعوة الشيوعية لا يغفلون عن السجون لبث دعوتهم بين نزلائها من المجرمين. لأن تعويلهم على نفايات المجتمع دائمًا أكبر من تعويلهم على الطوائف المحصنة فيه بالتربية والمعرفة والأخلاق.
وليس في ميسور هؤلاء السماسرة بالبداهة أن يسخروا الرؤساء والمديرين كلما أرادوا أن يدسوا أصابعهم في إحدى المؤسسات التي تعنيهم. ولكنهم إذا عجزوا عن تسخير رؤسائها ومديريها كان ذلك أدعى إلى محاولة «التسخير» من ناحية أخرى، وهي ناحية الأتباع وصغار المرؤوسين.
ونحن اليوم في حرب مع الدعوة الشيوعية لا ينبغي أن تهدأ أو تتوانى قبل القضاء عليها، فكل معرفة بوسيلة من وسائلها، أو خطة من خططها، هي سلاح لا غنى عنه في هذا الكفاح بين الإنسانية والبهيمية، وبين النظام والخراب.
***
نقدم هذا التمهيد لأننا نرى في كثير من الأحيان أخبارًا في بعض الصحف التي لا تنالها الشبهات يستعصي فهمها بغير التنبه إلى هذه الحقيقة. وإن وقف التنبه إليها عند حدود الظن والاشتباه.
وآخر مثال على ذلك أننا قرأنا في الصحف برقية من لندن تشتمل على خلاصة رأي الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في لينين زعيم الشيوعية، وهو ترديد لبحوثه المشهورة في المذهب كله وفي دعاته المعاصرين على الخصوص، وجملة القول في رأي هذا الفيلسوف الكبير أن تفكير الداعية الشيوعي ينم على التعصب وضيق الأفق والإقدام على الشرور أو «التشيطن» كما يسميه بأسلوب المجاز Diabolism.
قرأنا البرقية في إحدى الصحف التي لا تنالها الشبهات كما قلنا فإذا هي تنشرها بهذا العنوان: «كان لينين متهورًا … » وتشفعه بعلامتين كبيرتين للتعجب … ثم تروي رأي برتراند رسل بعنوان «مزاعم فيلسوف إنجليزي معاصر …!»
فكدنا لا نصدق أننا نقرأ هذه العناوين في صحيفة مصرية لا تدين بمذهب من هذه المذاهب الهدامة.
لأن وصف لينين بالتهور في دعوته قد يكون أعجوبة في نظر الصحافة الروسية وما إليها.
ولأن كلام عظيم من عظماء الفكر كبرتراند رسل قد يوصف «بالمزاعم» عند من يعتقدون أن لينين فوق منال الشبهات والتهم وأن الكلام عنه لا يستحق أن يوصف بأكثر من «الزعم» في نظرهم ولو صدر من رجل كذلك الفيلسوف الكبير.
أما أن نتطوع بتنزيه لينين عن الشبهات والاستخفاف بحكم برتراند رسل عليه وعلى أمثاله فذلك هو الأمر المستغرب، في صحافة لا تدين بمذهب الزعيم الشيوعي، ولا تحمل ضغنًا لمن يخالفه ويعزو دعوته إلى التهور وضيق الحظيرة وسقم الوجدان.
ومن هو هذا «الزاعم» المزعوم؟
هو العالم الذي لا تعلو مكانته في العلوم الرياضية والطبيعية والمباحث الفلسفية مكانة مفكر بين العلماء الأحياء في العصر الحديث.
هو الرجل الذي لا ترقى الشبهة إلى استقلاله في الرأي وجرأته على إعلان الحقيقة كما يراها، لأنه — وهو سليل بيت من بيوت الدوقات في البلاد الإنجليزية — ينعي على الاستعمار البريطاني ويتمنى زوال الإمبراطورية البريطانية ويقول أن زوالها نعمة عليها وعلى الإنسانية بأسرها.
هو الرجل الذي أنحى باللائمة على اللورد جراي لسعيه في الاتفاق الإنجليزي الفرنسي عن مصر ومراكش، وقال يومئذ أن هذا الاتفاق هو المقدمة المحتومة للحرب العالمية.
هو الرجل الذي استقبل السجن والفصل من منصب الأستاذية لأنه عارض سياسة الحكومة الإنجليزية جهارًا والحرب قائمة على سوقها.
هو الرجل الذي يُرجع إلى آرائه في مذاهب الاجتماع ومناقشة القادة السياسيين وتقوم آراؤه فيهم على دراسة «طوفائية» ومعرفة شخصية ببعضهم، ومنهم لينين.
فإذا كان رجل كهذا يبدي رأيًّا في لينين فلا يعطى حقه من الاحترام في صحافتنا المصرية، فعلى أي رأي من الآراء تعول الصحافة المصرية لمعرفة الحقائق عن مذاهب الهدم والفوضى؟
***
نعود فنقول أن أصحاب الصحيفة التي نشرت الخبر على هذه الصورة المستغربة لا تمسهم الظنون في ترويج مذهب من مذاهب الهدم والتخريب، ولا يخطر على البال أنهم يقبلون مذهبًا كهذا فضلًا عن تحسينه والسخرية من ناقديه …
ولكن الغرابة تزداد بهذا في الواقع ولا تنقص. فإنهم خليقون أن يجنبوا أنفسهم احتمال هذا الوزر سواء رجعت الشبهة فيه إلى سوء تدبير أو سوء تقدير.