الكاتب: عباس محمود العقاد
الناشر: مجلة الكتاب
تاريخ النشر: يونيو 1949
ما هو الصدق؟ هو كما عرفوه مطابقة الواقع.
ولكن ما هو الواقع؟ وكيف نطابقه؟ هل نطابقه بإدراك الحواس؟ أو نطابقة بألفاظ اللسان؟ أو نطابقه بوعي القريحة والخيال؟
كل أولئك مطابقة. وكل مطابقة من هذه المطابقات صدق على حسب ذلك التعريف. ولكنها على هذا تختلف فيما بينها أوسع اختلاف في التعبير والتمثيل.
فإذا رأيت مرجًا من مروج الربيع صدقت في وصفه حين أقول إنه رقعة من الأرض ذرعها ألف ذراع، يتخللها جدول ماء، وفيها ثمر من فصيلة كذا وكذا وزهر من فصيلة كذا وكذا في علم النبات.
وصدقت في وصفه حين أقول إنه جميل مريح.
وصدقت في وصفه حين أقول إنه يتألق كما تتألق العيون، ويزدهر كما تزدهر الوجنات، ويفتر كما تفتر الثغور، وتمرح فيه النضرة كما يمرح صفو الشباب في الصبايا الحسان، وتتغنى فيه العصافير كما تتغنى الوصائف الثملات في الأعراس.
أما إذا قلت إنني رأيت فيه ثغورًا ووجنات، ولمحت فيه أحداقًا مؤتلقات، واستخفني المرح من قدود حسانه، واستطارني الطرب من ألحان عيدانه، فما أنا بكاذب، وما أنا بمخالف لما قلته في تلك العبارة التي أوردتها مورد التشبيه، وكل ما هنالك أنني حذفت الكافات والكأنات، واعتمدت على فطنة السامع في فهم هذه التشبيهات. فعبرت عن الواقع بأسلوب يختلف في اللفظ ولا يختلف في المدلول.
إن كان هذا هو الكذب الذي أرادوه حين قالوا إن «أعذب الشعر أكذبه» فهذا هو الواقع بعينه فيما نراه.
وغاية ما في الأمر أننا نطابق الواقع هنا بوعي القريحة والخيال، ولا نحب أن نطابقه بلغة الحس، أو بلغة الحساب والإحصاء.
وأيًّا كان نوع المطابقة فهو صدق على أية حال.
***
مثل آخر قريب من هذا المثل:
أعرابي غمر يغرب في رحلة مهلكة في مفازة موحشة.
تسأله فيقول لك إنها عامرة بالغيلان والسعالي، متجاوبة بأصداء الجن والعفاريت، من يسلكها لا يسلم من شر سكانها هؤلاء، ومن سلم منهم فقد كتب له عمر جديد.
هذا الأعرابي الغمر كاذب إن شئت، ولكن في حساب واحد: هو حساب الرحلات الجغرافية والمباحث العلمية.
فإن الرحالين والباحثين يجوبون تلك الصحراء ويعودون منها فيقولون وهم صادقون: ما عثرنا في تلك الصحراء بسعلاة، وما السعلاة التي ذكرها الأعرابي مما يمكن العثور عليه.
ولكنه إذا كذب في حساب الجغرافيين أفما من حساب آخر هو صادق فيه، أو مطابق للواقع فيما يدعيه؟
بلى! هناك حساب هو صادق فيه كل الصدق، مطابق للواقع كل المطابقة، وهو حساب الشعور والخيال.
لأنه وصف الخوف من الهلاك، ولا فرق بين الهلاك من الغول والسعلاة والهلاك من الوحشة والانقطاع. وغاية ما في الأمر أنه وصف الخوف محذوفًا منه الكافات والكأنات، ولا يزال صادقًا حين قال لنا: إن من يسلم من شر تلك المفازة فقد كتب له عمر جديد.
وكذلك قل في عرائس البحار.
وكذلك قل في كنوز الأرض وما يحرسها من المردة والشياطين.
وكذلك قل في همسات النسيم ونجوى الأنفاس.
وكذلك قل في كل واقع نطابقه بالشعور والخيال، ولا نقصر المطابقة فيه على اللمس والعيان.
وننتقل إلى الشعر الذي يتمثل فيه هذا الضرب من الواقع فنذكر بيت أبي الطيب في وصف الأسد:
ورد إذا ورد البحيرة شاربًا
|
ورد الفرات زئيره والنيلا
|
فعلماء الطبيعة يقولون لك إنه كذب. لأنهم يقيسون سرعة الصوت في الهواء، وسرعة الصوت في الماء، ويقيسون المسافة بين البحيرة ومصر والعراق، ويقدرون النسبة التي يتخافت بها الصوت فيجدون أن زئير الأسد الذي وصفه أبو الطيب لا يصل إلى النيل ولا يصل إلى الفرات.
أفكاذب أبو الطيب فيما وصف؟
إن قلت نعم مع علماء الطبيعة قلت لا على الأثر مع سامع ذلك الزئير. لأن زئير الأسد ملأ جوانب نفسه وشاع في منافذ حسه، فلم يدع فيها فراغًا لغير الرهبة والحذر.
ورهبة تملأ كل مكان في دنياه، خليقة أن تملأ كل مكان على وجه الأرض، ولو في الساعة التي ملأته الرهبة فيها، وذلك حسبه من مطابقة الواقع كما وقع في لحظة من اللحظات.
ولو أن أبا الطيب قال يومئذ في وصف شعوره بزئير الأسد إنه وصل في الدقيقة إلى بعد كذا من الأميال لما خالف الواقع في حساب العلم الطبيعي، ولكنه لا يذكر لنا شيئًا عن الواقع في طبيعة الشعور.
وهذا هو الواقع الذي يعنينا ويعنيه من وصف الأسد وزئيره.
كذلك يقول البحتري في وصف البناء السامق:
ذعر الحمام وقد ترنم فوقه
|
من منظر خطر المزلة هائل
|
فيصيب في تمثيل الذعر كما يحسه الواقف على شرفات ذلك الصرح، ولا يخطئ إلا من ناحية بعيدة من هذه الناحية، لأنه يقول عن الحمام المذعور أنه يترنم، وللترنم حال لا تشبه حال مذعور.
ويقول أبو العلاء في سخرية الموت والحياة:
رُبَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا
|
ضاحك من تزاحم الأضداد
|
والواقع أن اللحد لا يسخر، ولكنه قد يسخر إذا استطاع، وأن هناك سخرية في تعاقب الموتى على مكان واحد يكرهونه ويتزاحمون عليه كأنهم يشتهونه. فإذا أعرنا اللحد سخريتنا فنحن لم نغير من السخرية ولا من الواقع، ولكنها «استعارة» لا تضيع معها الحقوق!
هذه خلاصة القول عن الفن بين الصدق والكذب.
فلن يكن الفن جميلًا إذا كان فنًّا كاذبًا لا يطابق الواقع. ولكن أي واقع؟ وأي مطابقة؟
الواقع في الشعور، والمطابقة لذلك الشعور، وهي مطابقة لا ريب فيها، ومطابقة أصدق من كل مطابقة أخرى، إذا كانت المطابقات الأخرى خلوًّا من تمثيل ما نشعر به ونؤديه في فن من الفنون، سواء أديناه بالقلم أم بالريشة أو بالأزميل أو بالوتر والمزمار.
ويصدق على الواقع التاريخي ما يصدق على الواقع الحاضر أمامنا.
فمن مثل لنا بطلًا في غير عصره فأحسن تمثيله فهو صادق في الفن كاذب في التاريخ، أو هو شاعر حسن ومؤرخ رديء، نلومه على كسله وجهله، ولا ننكر عليه الصدق في حسه وخياله ولا القدرة على حسن تعبيره وتمثيله … فنمنحه درجة النجاح في الشعر ونضن عليه بها في التاريخ.
وكل فن جميل، فلن يكون كاذبًا أبدًا، لأنه لابد له من مطابقة الواقع، على اختلاف صور المطابقة في الشعور.
ولقد قيل عن أرواح شكسبير وعفاريته إنها لو برزت إلى عالم الحياة لما برزت في غير الصورة التي تصورها. وما قيل عن المخلوقات الخيالية في شعر شكسبير يقال عن كل مخلوق خيالي يمثل لنا حالة نفسية نشعر بها ونتصورها فيه. لأنه ولد من شعورنا، فإن لم يطابقه فلا صلة بيننا وبينه في عالم الحسّ ولا في عالم الخيال …