إننا نكتب عن عبود باشا وعن نفوذه الذي يخشى منه على دعائم المجتمع المصري، وإذا بنا نقرأ خبرًا من باب هذا النفوذ الخطر لا يصح السكوت عليه، وبخاصة عند من يعرفون الريف المصري ويعرفون آثار ذلك النفوذ وأمثاله في أحوال أهله وجرائره على الأمن والعدالة والأخلاق.
خلاصة ذلك الخبر أن البدراوي باشا طلب من وزير الداخلية إبعاد البكباشي سعد الدين السنباطي رئيس المباحث بمديرية الغربية لأنه هو الذي تعقب المجرم الخطير الذي كان يحتمي بمنزل واحد من الأسرة البدراوية.
وقيل في الخبر أن وزير الداخلية لم يعجبه أسلوب الطلب فرفضه لأول مرة ثم عاد فاستجاب إليه متعجلًا في استجابته لأن حضرة البكباشي المطلوب إبعاده كان في إجازة أثناء صدور الأمر بنقله، ولم يكن هنالك من داع إلى سبق الحركة الإدارية العامة بهذا الإجراء الوحيد.
ويكفي لتقدير الخطر الوبيل في اعتقادنا واعتقاد العارفين بريفنا المصري أن يفهم أبناء القرى أن حراس الأمن الذين يتعقبون المجرمين يتعرضون للإبعاد إذا أغضبوا هذا الوجيه أو ذاك.
يكفي هذا وحده لتقدير أكبر الأخطار التي تحذرها الحكومة في الأقاليم الريفية على الخصوص.
لأن الأثر الذي ينجم من هذا الفهم أن المجرم يمضي في تهديد الآمنين وفرض الإتاوات والمطالب عليهم ثم لا يجسر واحد منهم على مقاومته بل على شكواه إلى حفظة الأمن وحراسه.
لأن حفظة الأمن أنفسهم يترددون في الإصغاء إلى تلك الشكوى ويعملون ما في وسعهم للإغضاء عنها والمطاولة في تحقيقها، أو يعملون ما في وسعهم للتسويف والمراوغة حتى يتمكن المجرم من الهرب إن كان المطلوب القبض عليه، أو يتمكن من تكذيب الشكوى إن كان المطلوب إثبات حالة من الحالات.
ولا نظن أن أحدًا في مصر يحتاج إلى تصوير العواقب التي تنشأ من شيوع هذا الظن ولو لم يبلغ مبلغ الشبهة القوية فضلًا عن العقيدة اليقينية.
فإنها ولا ريب عواقب وخيمة شديدة الوخامة في نفوس أبناء القرى وفي نفوس الموظفين الذين ينالهم «الإبعاد» أو يسمعون به ويفهمون دلالته على هذا المعنى.
إن احتمال هذا الظن مجرد الظن كان وحده كافيًا لتأخير نقل الموظف «المطلوب إبعاده» ولو حان موعد النقل في الحركات الإدارية العامة أو الخاصة.
أما أن تأتي طريقة النقل مؤكدة لذلك الظن فهو ضرر لا يحتاج إلى تعليق وتوضيح، لأن عاقبته المحذورة من وراء التخمين والحسبان.
***
كنا نتكلم في مقالنا السابق عن تبرعات الأعيان والوجهاء من طلاب النفوذ في الأمة، أو في البيئة التي يعيشون فيها من الأقاليم الريفية.
وكنا نقول أن طلاب النفوذ هؤلاء كانوا يتوسلون إليه ببناء المستشفيات وإقامة المعابد وتعميم معاهد الخير والإصلاح، وكان غاية ما يرجونه من نفوذهم أن يصبحوا مقبولين في مجلس سعادة المدير وأن يساعدهم هذا القبول على الوساطة لهذا العمدة والشفاعة لهذا الشيخ والشكاية من تأخير المناوبات أو ابتعاد موقع المحطة على سكة الحديد.
وتشاء المصادفات أن يكون الخبر الذي نقرؤه في اليوم نفسه متعلقًا بعين من هؤلاء الأعيان له في التبرعات تاريخ قريب مذكور.
فالناس لا ينسون أن البدراوي باشا قد وعد في أيام الوباء بأربعين ألف جنيه يعاون بها في إقامة المنشآت العلمية والطبية التي تمكن الحكومة من مقاومة الأوبئة وأنه قد وعد بهذا التبرع بعد حصوله على مقدار كبير من الأمصال لحماية مزارعه من «إصابات» الوباء.
لا ينسى الناس هذا ولا ينسون معه أن الثري الكبير قد أخلف وعده وقد أصر على هذا الخلف في صورة تنم على التحدي والازدراء.
فماذا يقول الناس اليوم إذا أرادوا أن يفسروا «هذا الخاطر» الذي ينفع صاحبه عند الوزراء ورؤساء الوزارات في كل طلب يطلبه ولو كان فحواه إبعاد موظف أمين يستحق المكافأة والتكريم؟
إنهم لا يستطيعون أن يفسروا ذلك الخاطر بكرامة التبرعات السخية التي تجعل لصاحبها دالة على الحكام وولاة الأمور.
إنهم لا يستطيعون أن يفسروه بعدالة الطلب أو بانتفاء الضرر منه وقلة دواعي الحذر من مجاراة السري الكبير فيه.
وكل ما يستطيعون أن يفهموه أن نفوذ الغني وحده كافٍ لإرضاء صاحبه على حساب العدل والأمن وحسن السياسة في معالجة هذه الأمور.
فالبدراوي باشا يستطيع إذن أن يخيف الموظف الأمين الذي يعمل لحماية الأمن ورعاية القانون.
فمن الذي يجسر بعد هذا على إغضاب السري الكبير من جمهرة الضعفاء المساكين؟
ومن الذي يصدق بعد هذا أن حكاية القانون في المجتمع المصري حكاية جدية يتساوى فيها الوجهاء وغير الوجهاء وتفرض على أمناء القانون أن يأخذوا بحق البريء ويضربوا على يد المجرم ولا يحفلوا في سبيل ذلك بغضب أو وعيد؟
والأدهى والأمر أن يحصل ما حصل مع وجود أسباب كثيرة تدعو إلى اجتنابه واتقائه من سوء التأويل والتفسير … ومنها الإقناع بالحيدة التامة بين الأحزاب والمرشحين في الانتخاب.
فماذا عسانا نقول في هذه الأعاجيب التي لا يحسب فيها حساب لانقلاب الأوضاع من أجل هذا الخاطر تارة ومن أجل ذلك النفوذ تارة أخرى، ومن أجل أصهار الخاطر وأبناء عم النفوذ تارات أخريات؟
لا نقول شيئًا، وخير لنا ألا نقول شيئًا غير الرجاء في الله أن يكتب السلامة لهذه البلاد.