أخشى أن أقول أن سعر «الرأي العام» قد رخص في تقدير كثير من طلاب النفوذ في مصر، كما يؤخذ من أعمال «الناقدين» فعلًا. أو من أعمال هؤلاء الذين يسمونهم بأصحاب الأعمال.
فقد رأى أبناء هذا الجيل أناسًا يطلبون «النفوذ» والمكانة في هذا البلد فيشترونه بالثمن الغالي من التبرعات والهبات و«أعمال» البر والإحسان.
كان أحدهم في سبيل الشهرة يجود بعشرات الألوف من الجنيهات، وتستفيد الأمة كثيرًا من غرامه بالشهرة لأنه قد يحمله على بناء المستشفيات وإقامة دور التعليم وتعمير المعابد وتعميم معاهد الخير والإصلاح.
وكان الوجيه الذي يجود بهذه الأموال لا ينتظر من ورائها أن يكسب النفوذ الذي يسلطه على الوزارات ويجعل له الكلمة المسموعة في عهود الحكم وبرامج السياسة الوطنية. فإنه مطمع لا يحلم به ولا يتطلع إليه، ولكنه يرجو — غاية ما يرجو — أن يصبح مقبولًا في مجلس سعادة المدير وأن يساعده هذا القبول على الوساطة لهذا العمدة والشفاعة لهذا الشيخ والشكاية من تأخير المناوبات أو ابتعاد موقع المحطة عن «هذه القرية» على خط السكة الحديد.
ذلك كان غاية النفوذ الذي يتطلع إليه الوجيه من وراء عشرات الألوف التي يبذلها في سبيل الخير ويكسب بها ما يكسب من سمعة الوجاهة البارزة والثروة العريضة.
أما اليوم فقد هبط سعر «الرأي العام» عندنا غاية الهبوط في زمن لم يشتهر بشيء كما اشتهر بارتفاع الأسعار!
اليوم يوجد فينا من يتطلع إلى اقامة العهود الحكومية وإسقاط غيرها ولا يكلف نفسه «سداد الضريبة» التي يسددها الغني والفقير.
ولو قيل أن هذا خيال من شاعر لاستبعده السامعون في باب الخيال.
لكنه في الواقع «واقع» لا شك فيه.
وهو الواقع الذي تسجله الأحكام النهائية في قضايا عبود باشا، وتسجله القوانين المعروضة على البرلمان.
من هذه الأحكام والقوانين يتبين أن عبود باشا يؤخر للدولة نحو أربعة ملايين من الجنيهات وجب «استحقاقها» بلا خلاف ولا موضع للمطاولة والمطال.
أربعة ملايين من الجنيهات في زمن تحتاج فيه مصر إلى الضريبة وتعيد النظر مرة بعد مرة في البحث عن مصادرها من كل من يستطيع، بل من كل من يطيق.
ولكنها على الأرجح ليست كل ما هنالك من المال المطلوب للدولة أو من الحق الذي هو أصغر حقوق المجتمع عند الأغنياء.
لأن هذه الملايين قد ظهرت بعد حساب ومطابقة أقدمت عليها الحكومة السابقة.
وأين هي الحكومات التي تواظب على محاسبة عبود ومطالبة عبود؟
بل أين هي الحكومات التي لا تعطيه «الضريبة» التي يفرضها هو على الدولة وعلى المجتمع تارة لتجديد الآلات، وتارة أخرى لحماية الآلات من الانفجار؟
هبط سعر «الرأي العام» في مصر بغير مراء، ولو كان هبوطه هذا قياسًا لقيمة الأمة لوجب أن نقول أن الأمة المصرية قد تأخرت ولم تتقدم، وقد سفلت ولم ترتفع، وقد هانت على نفسها ولم تعرف في عهد الاستقلال معنى الحرية والكرامة.
ولو صح هذا لكانت الطامة أكبر وأخطر من نفوذ عبود وضرائب عبود …
ولكنه لحسن الحظ غير صحيح، وهو ما نتعزى به بعض العزاء.
إن الأمة المصرية تقدمت ولم تتأخر، وارتفعت ولم تسفل، وإنما رخص سعر الرأي العام عند أناس لأنهم يلتمسونه من طريق المناورات الحزبية والمساعي «الدبلوماسية» الخفية.
ومن هنا كان هوان «هذا الرأي العام».
فمن قبل كان طالب النفوذ يطلبه من الأمة أو من جمهرة الأمة التي يعيش بينها.
أما اليوم فيكتفي طالب النفوذ أن يكون على صلة بالمناورات الحزبية وعلى ارتباط بالمساعي التي تسمى بالدبلوماسية، ليصبح بطل الأبطال بغير نزال، وبغير نوال.
وقليل من المال يكفيه في هذه «السوق».
وشيء من العلاقة بشركات الخارج والداخل يتيح له أن يحصل على المساعدة المطلوبة في ميدان السياسة، ممن يدينون بالطاعة لقياصرة الشركات …
وهكذا استطاع عبود باشا أن يستأثر بالنفوذ الذي يحتاج إليه.
وهل يجهل أحد ما هو النفوذ الذي يحتاج إليه عبود باشا؟!
إنه يحتاج إلى نفوذ يغدق عليه الأرباح بملايين الجنيهات.
ويحتاج إلى النفوذ الذي يحميه من المخالفات، ويبيح له أن يعرض ما يشاء ويمنع ما يشاء ويفرض على الحكومة والأمة السعر الذي يشاء.
ويحتاج إلى النفوذ الذي يعفيه من الضريبة ويسمح له كلما أراد أن يفرض على خزانة الدولة ضريبة تجمعها له من الأغنياء والفقراء.
يحتاج إلى هذا ويحتاج إلى أكثر من هذا.
وأكثر من هذا أن يضمن لنفسه هذا الميدان بغير منافسة ولا مزاحمة ممن يطلبون الأرباح كما يطلبها ويشتهون النفوذ كما يشتهيه.
فهناك ولا شك أصحاب أموال كثيرون يحبون أن ينافسوه ويقنعون بربح دون ربحه ويوفرون على الأمة المصرية حصة من هذا الربح الذي يؤخذ منها الآن، ثم لا يضنون عليها بحقها من الضريبة ولا من التبرع الذي يفرضه العرف على أصحاب الأموال.
وهل يستطيع عبود باشا أن يبعد هؤلاء المنافسين من الميدان بغير نفوذ فعال.
ولكنه نفوذ لا يستقيم مع قيام الدستور، ولا يطلبه أحد في عهد حكومة مصرية تدين بمصالح البلاد قبل أن تدين بمرضاة عبود، ومن يعملون معه في العلن أو في الخفاء.
ولهذا نقول ونعيد أن بقاء هذا النفوذ وبقاء الدستور لا يتفقان، وأن الخطر بعد ذلك أعم وأجسم، لأنه الخطر على بنيان المجتمع كله أن يصيبه الشك في دعائم القانون.