والخطر الذي نتقيه هو خطر الدعوة إلى مذاهب الهدم والفوضى وفي مقدمتها الشيوعية.
وربما كان أكبر الخطر في هذه الدعوات من أعمال أصحاب الأموال لا من أقوال المهيجين وطلاب الانقلاب.
فإن عملًا واحدًا من أعمال «أصحاب رؤوس الأموال» يستخدمه الشيوعيون في ترويج دعواهم قد يغنيهم عن مئات من الرسائل والمنشورات التي يحشونها بآرائهم ونظرياتهم ويحاولون إثباتها بالباطل، وهي لا تقبل الإثبات.
ودعواهم الكبرى — بل دعواهم الوحيدة حين يخاطبون الجماهير — أن القوانين في المجتمعات التي تقوم على نظام رأس المال إن هي إلا ألاعيب في أيدي المستغلين وكبار الأغنياء، وأنها تنفذ على الضعفاء ولا تنفذ عليهم، لأنهم يستخدمونها في تمكينهم من تسخير الفقراء والأجراء.
وويل لمصر من خطر الشيوعية إذا كانت حكوماتها تحارب «الأقوال» التي تنشر الشيوعية ولا تحارب «الأعمال» التي تبثها وتملأ أفواه الداعين إليها بمختلف الأقاويل.
فخطر الأعمال على الدوام أولى بالاتقاء والحيطة من خطر الأقوال، ولا سيما الأقوال المجردة من الشواهد والبينات.
قلنا في مقال سابق: «إن الشركات في بلاد العالم مصلحة اقتصادية لا غنى عنها إذا هي التزمت حدود الخطط المعقولة والمطالب السائغة. ولكن الذي يريده عبود باشا غير سائغ ولا معقول.
لأنه يريد أن يكسب ولا يؤدي الضرائب المفروضة على مكاسبه وإن صدرت بها أحكام القضاء.
ويريد أن يرفع الأسعار باسم العمال ثم يطالب الحكومة بأجور أولئك العمال.
ويريد أن يعرض من السكر في الأسواق ما يقبل عرضه ولا يزيد عليه. ثم يقيم العراقيل في وجه الواردات الخارجية.
ويريد أن يكون دولة تتحدى قوانين الدولة … وقد ذكر صاحب السعادة وزير التموين السابق أنه خالف القانون في نحو مائة قضية ولا يزال يصر على المخالفة، وعلى تحدي الأوامر الحكومية التي صدرت إليه».
وفي اليوم نفسه نشرت الأساس هذا السؤال: «هل صحيح أن المحكمة المختلطة حكمت ابتدائيًّا واستئنافيًّا على شركة عبود باشا للملاحة بمبلغ 800٫000 جنيه وكسور ضرائب متأخرة حتى سنة 1947 وأن هذا الحكم النِّهائي لم ينفذ حتى الآن؟»
وأعادت الأساس هذا السؤال أمس ثم قالت: «ولا نزال في انتظار هذه الإجابة!»
فإذا كان عبود باشا لا يؤدي الضرائب ويضطر الحكومة إلى مقاضاته بها ابتداء واستئنافًا ثم لا يذعن للحكم الصادر عليه فما هي الحقوق التي يؤديها للمجتمع؟ وما هو القانون الذي يذعن لحكمه؟
إن الضريبة أصغر حقوق المجتمع عند الأغنياء على الخصوص فهل يظن عبود باشا أن الدولة تحصل الضريبة من البائع المتجول ومن الموظف الصغير ومن سائق السيارة لتنفقها عليه وعلى مشروعاته التي يربح منها الملايين؟
نفهم أن يضن عبود باشا على المجتمع المصري بالتبرعات وإن كان لا يضن بها على نادي العلمين، ونفهم أن عبود باشا يضارب في العطاءات ويستخدم الوسائل التي تميزه في كل عطاء. ولكن هل نستطيع نحن أو يستطيع غيرنا أن يفهم أنه لا يؤدي الضريبة قبل حكم القضاء ولا بعد حكم القضاء؟
يظهر أن الرجل قد أصبح يدين بفائدة واحدة للقانون، وهي التلويح به لإرهاب ناقديه حين يطالبونه باحترام القوانين.
فالناس يعلمون أن الحكومة السابقة طالبته ببيع السكر «غير المكرر» في الأسواق، ويعلمون أنه اعترض على ذلك بأن بيع السكر قبل تكريره يحرم عمال التكرير من أجورهم ويعرضهم للبطالة، فدفعت الحكومة اعتراضه بالسماح له برفع ثمن السكر الخام مثل سعر السكر المكرر، ليستبقي للعمال أجورهم من الفرق بين الثمنين.
وينتفع عبود باشا بعشرات الألوف من الجنيهات التي حصلها من بيع السكر قبل تكريره.
ثم يعود ليطالب الحكومة بأجور العمال، ويريد أن يفهم أن مساواة المكرر بغير المكرر في السعر مسألة طبيعية بديهية لا علاقة لها بتلك الأجور.
فإذا قيل له أنه قد حصل هذه الأجور فعلًا فهو حينئذ يذكر القانون ويلوح به لإرهاب ناقديه ويقول إن هذا الكلام «ينطوي على تحريض أثيم لعمال شركة السكر وتأليب لهم على الشركة؛ مما كان يجب على سعادة الوزير — وزير التموين السابق — أن يتحرز منه …!»
ثم يقول: «ويلاحظ على هذا القول ثالثًا أنه بدعة لا نظير لها في نظام الشركات. فلا نحسب أن السوابق الصناعية تجعل من حق بعض عمال المؤسسات الصناعية أن يختصوا دون سائرهم ببعض أرباح المؤسسات».
إنه لحسبان في غاية الضبط من ناحية واحدة، هي الناحية التي يهواها السيد عبود.
فإن السوابق عنده تسمح للشركات بمساواة الخام بالمكرر في الأسعار، ولكن هذه السوابق — حماها الله — لن تسمح بحسبان أجور العمال من الفارق بين السعرين!
هذه سوابق وتلك سوابق. والسيد عبود هو الحكم الفصل في اختيار ما يشاء من السوابق وإهمال ما يشاء.
وتسألون: هل للقانون في مصر لزوم؟
ويجيب السيد عبود: معلوم له لزوم … ولزومه أن السيد الموقر يختار السوابق التي تريحه، ويهدد بالعقاب من لا يؤمنون بهذا الاختيار!
***
أيها الناس … أفيقوا إن كنتم مفيقين. ولن تفيقوا حتى تعلموا علم اليقين أن هذه الأعمال أولى بالمحاذرة من جميع الأقوال التي ينتحلها المهيجون، وهي لولا تلك الأعمال وأشباهها ضرب في الهواء.