يعتقد الكثيرون أن بقاء الدستور وبقاء النفوذ الذي يشاع أن أحمد عبود باشا متمتع به الآن نقيضان لا يتفقان.
فاسم عبود باشا يقترن اليوم بالمناورات الحزبية والانقلابات الحكومية، ويتحدث الناس بذلك في القهوات والأسواق.
وليس هذا النفوذ مستمدًا من أموال عبود باشا وشركاته، لأن هذه الأموال قد تنفعه في الداخل ولا تنفعه في الخارج، لتفوق «قوتها» الداخلية على قوة الأموال التي تماثلها في الكثرة، أو في مجال العمل.
ولكنه يستطيع أن يقرن اسمه بالمناورات الحزبية والانقلابات الحكومية، لأنه «عنوان» لمنافع الشركات في جملتها، سواء منها ما يعمل في مصر وما يتطلع إلى السياسة المصرية من قريب أو بعيد.
والشركات في بلاد العالم مصلحة اقتصادية لا غنى عنها إذا هي التزمت حدود الخطط المعقولة والمطالب السائغة.
ولكن الذي يريده عبود باشا غير سائغ ولا معقول. لأنه يريد أن يكسب ولا يؤدي الضرائب المفروضة على مكاسبه وإن صدرت بها أحكام القضاء، ويريد أن يرفع الأسعار باسم العمال ثم يطالب الحكومة بأجور أولئك العمال، ويريد أن يعرض من السكر في الأسواق ما يقبل عرضه ولا يزيد عليه ثم يقيم العراقيل في وجه الواردات الخارجية ويريد أن يكون دولة تتحدى قوانين الدولة … وقد ذكر صاحب السعادة وزير التموين السابق أنه خالف القانون في نحو مائة قضية ولا يزال يصر على المخالفة وعلى تحدي الأوامر الحكومية التي صدرت إليه.
والذي يريد هذا لا يستطيع أن يحصل عليه من حكومة دستورية تواجه الرأي العام بالحقائق في مسائل الضرورات المعيشية على الخصوص.
فلا بد من المناورات الحزبية إذن ولا بد من المساعي السياسية التي تبيت في الخفاء.
أمع الحكومة الإنجليزية في صفتها الرسمية؟
أحيانًا فيما نعتقد ولكن ليس على التحقيق في جميع الأحيان. فإن بعض هذه المساعي والمناورات يشترك فيها أفراد من الإنجليز ذوي النفوذ لحسابهم الخاص أو لحساب الشركات التي تملك الوعد والوعيد.
وقد جاء يوم من الأيام كان نفوذ عبود باشا كله متجهًا إلى إحباط الاتفاق بين مصر والحكومة البريطانية، فليس هذا النفوذ على الدوام مستمدًا من الحكومة الإنجليزية في صفتها الرسمية، ولكنه على الدوام مستمد من نفوذ الشركات وأموال الاستغلال.
***
ويلوح لنا من بعض الحركات الأخيرة أن في محيط السياسة المصرية موجة من «النشاط المشترط» بين جمهرة من الشركات القوية.
فإنه لم تمض على التغيير الوزاري ساعات معدودات حتى نشرت صحيفة «المصري» كلامًا تقول فيه أن الوقت قد حان لاعادة النظر في بعض المشروعات الكبيرة.
ولم تمض ساعات أخرى حتى استفاض القول في مشروع كهربة الخزان وترامت في الجو إشاعات بإهمال المشروع تارة وإرجائه تارة أخرى.
وظهر من تتبع الصحف الإنجليزية — التي تمثل المصالح المالية — أنها تقابل هذه الإشاعات بالاهتمام والترحيب.
وبالأمس فقط أشار مراسل الديلي تلغراف في القاهرة إلى «التكهنات الخطيرة» التي تتردد في صدد هذا المشروع!
ونحن هنا في مصر نؤمن بأن المسألة أخطر من أن يؤول الفصل فيها إلى بضعة نفر من سماسرة الشركات.
ولكننا على إيماننا بهذا لا نستطيع أن نجهل مساعي الشركات التي كانت تريد تنفيذ مشروع الكهربة على طرائقها وتقديراتها.
ولا نستطيع أن نجهل المساعي الأخرى التي سبقت وجود عبود باشا وشركاته وارتبطت زمنًا طويلًا بمسألة التصنيع في البلاد الشرقية، وفي البلاد المصرية بصفة خاصة.
وكل أولئك جدير باليقظة والانتباه الشديد، ولا بد من النظر إلى ما وراء الظواهر في هذه الأمور.
والشائع الآن على الألسنة أن سياسة عبود ترمي إلى إقامة «الحكومة المصرية» التي تقبل منه أن يقيم نفسه دولة في داخل الدولة.
تؤيد هذه الإشاعة مناورات حزبية سابقة، ومحالفات حزبية حاضرة، ومداورات ومحاورات لا تخفى على لبيب.
***
وأيًّا كان موقف عبود باشا من شركات الخارج والداخل، فالحقيقة التي لا ريب فيها أن مطالبه — في أعمال شركاته المعروفة — لن تقبلها حكومة مصرية تعمل للمصلحة العامة وتواجه الأمة بالوقائع الصحيحة في شؤون معيشتها.
وأنه لن ينال تلك المطالب ما لم يكن له نفوذ يتحدى الدستور والقانون، فإن هذا النفوذ وحده هو الذي يتيح له أن يكسب ولا يؤدي الضريبة، ويتيح له أن يتقاضى الأسعار العالية باسم العمال ثم يطالب الحكومة بأجورهم، ويتيح له أن يقدم على المخالفات وهو آمن من العقاب. ويتيح له مع هذا كله أن يطمع حينًا بعد حين في الملايين من خزانة الدولة باسم ترميم الآلات أو باسم الخوف من انفجار الآلات ثم ينال ما اشتهى من الطلبات؛ أو يتفق هنا وهناك على إحراج حكُومات وترشيح حكُومات!