الإحصاء من أنفع الأدلة التي دخلت في تقدير الباحثين في الشؤون العامة من أبناء العصور الحديثة.
ولكنه مضلل كل التضليل إن لم يكن وافيًّا من جميع الوجوه، ولم يكن مقترنًا مع ذلك بطريقة الاستدلال.
لأن طريقة الاستدلال بالإحصاء ألزم من الإحصاء نفسه، وما لم يقل المحصي كل شيء يتعلق بإحصاءاته فالخير له ولمن يستمعون إليه ألا يقول شيئًا على الإطلاق.
مثال ذلك إحصاء الدكتور كليلاند العميد السابق للجامعة الأمريكية بالقاهرة الذي ذكره حديثًا في إحدى محاضراته بجامعة بيروت حيث قال أن متوسط سن الوفاة بالبلاد العربية خمس وثلاثون سنة، وأن هذا المتوسط يصل إلى ثلاث وستين في أوربة الغربية وأمريكا الشمالية.
فلو أن الدكتور كليلاند قال هذا وسكت عليه لسبق إلى الذهن أن عمر الفرد في أوربة الغربية وأمريكا الشمالية يقرب من عمر فردين اثنين من سكان البلاد العربية، وهو فهم خاطئ لذلك الإحصاء لا ريب فيه. وإنما يفهم إحصاء العمر في البلدين على حقيقته إذا اقترن بالكلام على وفيات الأطفال في السنة الأولى كما قرنه الدكتور فعلًا في بيانه. فيظهر حينئذ أن عمر الفرد في البلاد العربية لا يقل عن عمر الفرد في غربي أوربة وشمالي أمريكا، وأن التفاوت بين نسبة العمرين إنما جاء من حسبان أعمار الأطفال الذين يموتون قبل السنة الأولى، وهم في البلاد الشرقية كثيرون.
والمشهور عن الجامعتين الأمريكيتين في مصر ولبنان أنهما تعنيان عناية خاصة بالبحوث الاجتماعية وتبذلان غاية الجهد للحصول على البيانات الوافية والإحصاءات المدققة في هذا الباب.
ومن إحصاءات الجامعة البيروتية التي بين أيدينا عن وفيات الأطفال أن نسبة الأطفال الذين يموتون خلال السنة الأولى في مصر تسعة عشر من كل مائة، وأن نسبتهم في فلسطين خمسة عشر، وفي اليابان عشرة، وفي إنجلترا ستة وفي الولايات المتحدة خمسة، وفي النرويج أربعة، وفي زيلاندة الجديدة ثلاثة.
ولكنك تقف أمام هذا الإحصاء حين تراجع النسبة بالنظر إلى الأديان والعقائد لا بالنظر إلى البلاد والأقاليم.
ففي كل مائة طفل من المسلمين يموت ثمانية عشر، وفي كل مائة طفل من المسيحيين يموت ثلاثة عشر، وفي كل مائة طفل من اليهود يموت ستة.
فمن تضليل الإحصاء الناقص هنا أن يخطر على البال أن العقيدة نفسها ذات علاقة بكثرة الوفيات أو قلتها بين الأطفال، لأن غاية ما يمكن أن يدخل في هذا الحساب من تأثير العقيدة أن تعدد الزوجات قد يؤدي في نطاق محدود إلى قلة العناية بالمواليد الصغار، ولكنه نطاق محدود جدًّا لا تتجاوز نسبته آحاد في الآلاف.
أما الدلالة الحقيقية فهي راجعة إلى أسباب اجتماعية لا شأن لها بمعتقد الآباء والأمهات في جوهره.
وهذه الأسباب الاجتماعية هي أن البلاد التي جرى فيها الإحصاء بلاد إسلامية في جملة سكانها، فنسبة الطبقات الفقيرة التي تسوء فيها أحوال المعيشة بين المسلمين أكثر جدًّا من نسبة هذه الطبقات بين أتباع العقائد الأخرى. لأن المسلمين هم جمهرة سكان البلاد.
فمن ضلال الإحصاء أن تذكر هذه الأرقام معزولة عن ذكر هذه الحقيقة.
ومن ثم كان من الواجب دائمًا في بيانات الإحصاء أن تذكر كل شيء أو لا تذكر شيئًا على الإطلاق.
***
وإذا استطردنا من ذلك إلى شؤوننا العامة — أو شؤوننا السياسية والاجتماعية — فقد ترى العجب العجاب من نقائض الإحصاء في ظواهر هذه الشؤون.
فإن كثرة الشكاوي مثلًا خليقة أن تدلك على سوء الحكم، إذا قابلت بين عدد الشكاوي في العصور المختلفة.
ولكنك ترى من جمع الإحصاءات كلها أن الأمر على نقيض ذلك في بعض الأحوال، وأن زيادة الشكوى أحيانًا دليل على ارتقاء الحكومة وارتقاء المحكومين.
فحيث تسوء الحكومة لا يشكو أحد إليها، لأن الشكوى لا تجدي شيئًا من جهة، ولأن الناس يتعودون سوء الحال في عهود الحكومات الجائرة فيصبرون على الضنك ولا يستغربون الظلم والاضطهاد.
أما إذا ارتقت الحكومة وارتقى المحكومون فالشكاوى تفيد والإساءة القليلة تستوجب الشكاية السريعة لغرابة الظلم وعلم الرعية بما لها من الحقوق.
كذلك ينبغي أن تدل كثرة الأطباء على كثرة المرضى وشيوع الأمراض. ولكنك ترى في الواقع أن كثرتهم أحيانًا تدل على نقيض ذلك، لأنهم يكثرون حيث يفهم الناس العلاج ويسرعون إلى طلبه ولا يعتمدون فيه على التواكل والاستسلام أو على طب الخرافات.
***
ومن الإحصاءات الناقصة التي لها علاقة بشؤون الحكم أننا رأينا بعضهم يقابل بين نسبة الجرائم في عهد حكومة ونسبة الجرائم في عهد حكومة أخرى، ويريد أن يستدل بذلك على مفاضلة بين الحكومتين.
ولكن الإحصاء التام قد كشف عن الحقيقة التي حجبتها الإحصاءات الناقصة في تلك المقابلة.
إن نقصان الجرائم مع اعتقال المئات من المجرمين في محجر الطور، وقيام الأحكام العرفية الصارمة في البلاد، لا يدل على مجهود الحكومة كما يدل عليه نقص الجرائم والمجرمون منطلقون والأحكام العرفية مرفوعة أو خفيفة الوطأة في تطبيقها على المجرمين وغير المجرمين.
ومن أكبر ضروب التضليل — مع الأسف الشديد — أن تستدل بإحصاء الحملات الصحفية في مقام المفاضلة بين الحكام أو المفاضلة بين العهود الحكومية …
فقد تنعكس الآية أشد الانعكاس فتكثر الحملات على الحكومة الصالحة ويكثر الثناء على الحكومة الفاسدة.
لأن الحكومة الفاسدة تعرف كيف تشتري الأقلام وكيف تخيف أصحابها.
أما الحكومة الصالحة فهي لا تشتري قلمًا ولا تخيف كاتبًا فيصيبها سوء الجزاء من حيث تستحق أحسن الجزاء.