سلِّم داعية — أو دعيًّا — من أدعياء السياسة في مصر فكرة من الأفكار في الشؤون العامة ثم اتركه بضعة أسابيع وانظر بعدها إلى أين ينتهي بها المطاف.
إنك تراها بعد ذلك قد باضت وأفرخت وملأت ما حولها من الفراغ حتى لم تدع فيه مجالًا لفكرة تقترن بها أو تصححها أو تتم ما كان فيها بحاجة إلى إتمام.
مبالغة في انتظار مبالغة أخرى من قبيلها، وشر الأمور ما يبنى دائمًا على تداول المبالغات.
من ذلك فكرة «الحزبية السياسية» وضررها.
فقد بدأت في حدها المعقول وهو انتقاد الشطط في منازعات الأحزاب وتغليب الأهواء الحزبية على المصالح القومية عند قيام بعض الأحزاب في مناصب الحكومة.
ولكنها انتهت إلى أي شيء بعد ذلك؟
انتهت إلى هدم فكرة «الحزبية السياسية» من أساسها وأن تسمع من الكثيرين من يتمنى خلو الميدان السياسي في مصر من جميع الأحزاب: أي الأحزاب بلا استثناء: ما هو قائم، أو ما سيقوم بعد تصحيح وتنقيح، أو ما يمكن أن ينشأ جديدًا بغير سابقة على الإطلاق.
وإيجاز القول في هذه الأمنية أن تمني زوال الأحزاب وتمني زوال الحرية مترادفان.
لأن حريتك هي حقك في الاستقلال برأي تخالف به آراء الآخرين.
أما استقلالك برأي يوافق آراء الآخرين فلا حاجة به إلى حرية لأنه حق يملكه من شاء من الأقوياء والضعفاء، ولا يخشى أحد أن يتصدى له من يجرده منه كائنًا من كان وحيث كان.
فحق الاختلاف بالرأي هو الحرية.
وكل أمة جاز فيها للإنسان أن يخالف رأي غيره وجدت فيها الأحزاب، وبقيت بعد ذلك مسألة التنظيم لتقسيم هذه الأحزاب على حسب التوافق في الآراء.
ومن ثم كان إصلاح الأحزاب أمنية جديرة بالتمني في بلادنا المصرية.
أما إلغاء الأحزاب وإخلاء الميدان السياسي منها كل الإخلاء فهو شيء لا يتمناه وطني مخلص لوطنه لأنه يتمنى له الاستعباد الدائم والحجر الدائم حين يتمناه.
***
ونحن في مصر متفقون على كراهة الشطط في الحزبية.
ولكن الذين يكرهون الحزبية السياسية أصلًا ومبدأ هم قوم لم يشتركوا قط في الحركة الوطية منذ قامت في مصر حركة وطنية، وربما كان منهم من اشترك فيها لمصلحة المحتلين لا لمصلحة قومه، أو من كان اشتراكه فيها متهمًا مريبًا غير خالص لوجه الحق ووجه الله.
ولقد رأينا أناسًا ممن ظلوا خارج الأحزاب يتولون أعمالًا في الوزارة فلم نرهم قط أصلح حالًا من الوزراء الحزبين في نزاهة العمل أو في الإنصاف بين الموظفين وأصحاب المصالح في الدواوين.
فالباعث إذن إلى كراهة الأحزاب «أصلًا ومبدأ» هو باعث لا صواب فيه وقد يكون أيضًا لا إخلاص ولا أمانة فيه.
إن بلاد الحرية الديمقراطية لم تخلُ قط من الأحزاب والمذاهب المختلفة، وإنما خلت منها البلاد التي لا نتمنى أن نكون مثلها كالبلاد التي وقعت في قبضة الشيوعية الروسية.
أما أعرق الأمم في الحرية الديمقراطية فالأحزاب فيها حقيقة معترف بها غير مرغوب في زوالها.
بل ربما كانت الرغبة في تعزيزها أقوى وأوضح من الرغبة في إزالتها أو إضعافها.
ونحن نتكلم عن رغبة الرأي العام هنا حين نتكلم عن الرغبة في التعزيز أو الرغبة في الإزالة والإضعاف.
ففي البلاد الإنجليزية مثلًا قد اتفقت الأحزاب — من جراء الحرب — على اجتناب التنافس في جميع الدوائر، فتقدم بعض أصحاب الآراء مستقلين لينافسوا مرشحي الأحزاب المؤتلفة، لأنهم عرضوا برامج للإصلاح الاجتماعي لم يعرضها أحد من المرشحين الحزبيين.
فلم ينجح من أصحاب البرامج هؤلاء أكثر من خمسة.
ولما أبيح التنافس على الدوائر بعد الحرب العالمية، لم ينجح منهم غير واحد … لأن «الرأي العام» وجد كفايته في برنامج الحزب الاشتراكي الذي كانوا ينافسونه بدعوة الإصلاح.
وهكذا يستغنون بالمرشح «الحزبي» عن المرشح غير الحزبي، لأنهم يفهمون بالبداهة أن البرنامج الذي يعززه مائة أو مائتان، أولى بالتأييد وأقرب إلى التنفيذ من البرنامج الذي يعززه نائب أو نائبان.
وخير علاج لفوضى الأحزاب هو قيام الرأي العام بتنظيم تلك الفوضى من طريق الانتخاب.
والتنظيم الموفق النافع هو انقسام الأمر بين حزبين: حزب قائم بالحكم وحزب يعارضه ببرنامج يصلح للتنفيذ حين انتقال الحكومة إلى أصحابه.
ولا تحتاج مصر إلى نظام خير من هذا النظام.
لأنها في حاجة إلى استقرار طويل لتنفيذ خطط الإصلاح المرسومة في جوانبه المتعددة، وأكبر الأخطار إنما يأتيها من التقلقل الدائم وفقدان الثقة باطراد العمل على نهج مستقيم.
فإن لم يتحقق هذا الرجاء فالتآلف بين الأحزاب هو رجاء الضرورة الذي نقبله كلما فاتنا رجاء الحرية والاختيار.
ولكن أي تآلف نرجوه؟
إن الأحزاب تتآلف لتتجاذب الأمر فيما بينها، وتتآلف لتتجه بجميع قواها إلى جذب شيء واحد.
والأحزاب التي تشترك في الأمر لتتجاذبه فيما بينها شلل وحركة معطلة.
والأحزاب التي تنصرف قواها إلى اجتذاب شيء واحد حركة متقدمة وقوة مضاعفة.