قبل بضع سنوات كانت بريطانيا العظمى شديدة الرغبة في تعزيز الجامعة العربية حتى زعم الصهيونيون وأبواقهم في الولايات المتحدة أن الجامعة كلها مشروع من مشروعات دوننج ستريت!
وبعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين واشتباك القتال بين العرب والصهيونيين كان موقف بريطانيا العظمى محفوفًا بالغموض تارة والتردد تارة أخرى. لأنها كانت تريد أن تملي على العرب سياستها وتريد من الجهة الأخرى أن توافق الولايات المتحدة ولا تجهر بمخالفتها، فكانت خطتها كلها في المسائل العربية تنم على الحذر والمغالطة والحرص على أخذ «العصا من النصف» كما يقولون.
واليوم يقال أنها قد عادت إلى الرغبة في إبقاء الجامعة العربية وتعزيز مكانتها، ولكن برعايتها وأعينها وعلى شريطة أن تكون حكومات العرب جميعًا موالية لها «متفاهمة معها»!
وقد ذهب بعضهم في تأييد هذه الرغبة البريطانية مذهبًا واسعًا يتناول تفسير الحوادث الأخيرة في الشرق العربي كله، ويربط بين هذه الحوادث وبين المؤتمرات والزيارات التي تنعقد وتتوالى منذ أسابيع في العاصمة الإنجليزية.
لا بل توسع أصحاب هذا الرأي في تفسيرهم وربطهم بين الحوادث والدعوات حتى اعتقدوا أن بريطانيا العظمى ترمي إلى مشروع أكبر من مشروع الكتلة العربية وهو مشروع الكتلة الإسلامية أو الكتلة الشرقية، وأن ظهور الدعوة إلى هذا المشروع أول الأمر على لسان العرب «المتنجلزين» يسوغ الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى ترحب على الأقل بالكتلة الإسلامية أو الكتلة الشرقية وترجو أن تستعين بهذه الكتلة في سياستها الأسيوية أوقات السلم وفي خططها العسكرية إذا نشب القتال بين المعسكرين وتحولت مناورات السياسة والحرب جميعًا إلى تلك الرقعة التي تشغلها الأمم الإسلامية من أواسط آسيا إلى شمال أفريقية.
ونحن الشرقيين — على فرض صحة هذه الأقاويل — نفهم واجبنا نحو أنفسنا ونحو العالم الذي لا ننفصل عنه، ولا نريد أن ننفصل عنه بسياستنا؛ وواجبنا هو اتخاذ الخطة الصالحة لنا وللعالم بأجمعه، كائنًا ما كان موقف الدولة البريطانية من جامعات الأمم العربية أو الإسلامية أو الإنسانية ولا علينا متى عرفنا الخطة الصالحة لسلامة بلادنا ولتقرير السلام في العالم كله أن تكون هذه الخطة موافقة لما تدبره بريطانيا العظمى أو محبطة لذلك التدبير. فإن السياسة البريطانية تستطيع أن تسلك مسلك الارتجال والتردد في مشروعاتها الشرقية التي لا خطر منها على كيانها، ولكننا نحن لا نستطيع أن نسلك مسلك الارتجال في مشروع يمس كيان هذا البلد أو يمس كيان البلاد التي يؤازرها وتؤازره ويتجه معها إلى جهة واحدة.
***
على أننا نخشى أن نقول أن سياسة الارتجال والتردد عدوى سريعة الانتقال وأن من أعاجيب هذه العدوى أنها تنتقل من دوننج ستريت إلى أماكن خاصة في بلاد الشرق الأدنى.
فلماذا هذه الرحلات وهذه الحركات المفاجئة وهذه الأقاويل التي تحيط بها في وقت واحد؟
ينادي مناد من قبل ذلك القطر ليعلن مطامعه «التقليدية» ويستسلم لنوبات الصراحة التي تعتريه حينًا بعد حين!
وينادي في الوقت نفسه مناد من قبل العراق باستنكار كل إشاعة تتهم العراق بالطمع في قطر من الأقطار العربية، ويسمي تلك الإشاعات بهتانًا وتلفيقًا من «الانتهازيين».
وتأتي الأنباء باجتماع الساسة من هنا وهناك في بقعة من البقاع الشرقية للتشاور على ما يقال في تنفيذ المطامع التي تجهر بها الصراحة تارة وتنكرها السياسة والكياسة تارة أخرى.
أهي سياسة مرتجلة تتخبط وتتردد كلما عنت لها فرصة أو عرضت لها مناسبة؟
أم هي سياسة مرسومة يظهر عليها الارتجال والتخبط لأنها مرسومة في الخفاء يطلع عليها فريق ويجهلها فريق آخر، ولا يطلع عليها المطلعون إلا في فترات تنقطع أو تتصل على حسب المفاجآت؟
إن مصر على أية حال لا تحب أن تذهب ضحية لنوبات الارتجال ولا تحب في الوقت نفسه أن تجهل ما يدور حولها من هذه النوبات والنزوات.
وهناك تخبط ظاهر لا حاجة بنا إلى مجاراة أحد فيه، لأن حدود كل تخبط عندنا هي سلامة بلادنا وضمان حقوقنا، واجتناب المأساة التي تعرضنا للخذلان كلما عولنا على من لا يصلحون للتعويل عليهم في مآزق الخطر والشدة.
وفي وسعنا أن نمر بكثير من تلك النوبات والنزوات وتلك المفاجآت والمناورات ونحن نقول: «لا يعنينا … واللهم حوالينا ولا علينا».
ونحن قادرون على أن نقولها دائمًا ما دمنا نعمل العمل الذي لا نلام عليه ثم لا نبالي ما عداه.
والعمل الذي لا نلام عليه هو صيانة بلادنا والوقوف عند حدِّنا واجتناب كل ما تلزمنا فيه شبهة التقصير على سُنة واحدة لا تمييز فيها بين أمة وأمة من العاملين على الوحدة العربية أو الوحدة الشرقية، فليس من حقنا ولا من حق أحد أن يديننا بما لا يدان به سوانا، وكفانا ما جربناه من تلك الواجبات والفروض التي لا مشاركة فيها ولا شكر عليها.