تحيي البلاد في هذا اليوم ذكرى رجل لا تموت ذكراه في مصر ما دام لها تاريخ. وما دامت لها حياة.
رجل لم ينسَ وطنه ما عاش، فما عاش وطنه لا ينساه.
وذلك هو زعيمه القومي الأول سعد زغلول.
***
لحق سعد بالرفيق الأعلى منذ اثنتين وعشرين سنة.
فأبناء الثانية والعشرين ومن دونهم من المصريين لم يبصروه ولم يحضروه، وقد يقال ذلك عن أبناء الثلاثين أو الخامسة والثلاثين، إذا أردنا من الرؤية والحضور حضور المعرفة والإدراك.
وأوجز ما يقال للناشئين والشبان الذين لم يعرفوا سعدًا أنه كان رجلًا للوطن كله، وأنه المثل الذي يرتفع أمام أعين الشباب في كل جيل، ليقتدي به ويعمل على منواله.
فتح عينيه على الحياة العامة وهو مفعم القلب بالحمية لحرية وطنه وكرامة بلاده.
وألهمته بديهته الصالحة وسليقته المستقيمة — وهو فيما دون العشرين — أن ينضم إلى الفريق النافع للنهضة القومية، فكان في تلك السن الباكرة من تلاميذ جمال الدين وزملاء الأستاذ الإمام.
وانقضت الثورة العرابية فكان لسعد على الدوام عملان في خدمة هذه الأمة: عمله في وظيفته التي يتولاها، وعمله في الحياة العامة التي لم ينقطع عن المساهمة فيها والسهر عليها.
كان في المحاماة مثلًا للنزاهة والذمة والنصفة للحق من الباطل كما كان عنوانًا لكرامة المصري أمام قضاء لم يكن يومئذ خالصًا للقضاة المصريين.
وكان إلى جانب ذلك يعمل جهده لإحياء الرأي العام في مصر وتدعيمه وتوجيهه، وعرف حاجة مصر والعالم العربي إلى صحيفة سيارة تعبر عن مطالبه ولا يتهمها المحتلون في صحة تمثيلها للأمة المصرية، فأعان صاحب «المؤيد» على إصداره، ولم يعرف بخبر هذه الإعانة أحد حتى أعلنها صاحب المؤيد عند تجديد مطبعته وتكبير حجمه وزيادة صفحاته.
وكان في القضاء عنوانًا لكرامة مصر كما كان في المحاماة عنوانًا لتلك الكرامة.
وجرى على عادته في خدمة بلاده بالأمانة في وظيفته والمساهمة في شؤونها العامة؛ فاشترك مع الأستاذ الإمام وبعض صحبه الأبرار في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية، لنشر التعليم وإعانة المعوزين، ولا يزال هذا الأثر النافع قائمًا برسالته المشكورة إلى اليوم.
واتجهت الهمم إلى إنشاء الجامعة المصرية، فاتجهت في الوقت نفسه إلى سعد زغلول دون غيره، لرئاسة اللجنة التي تباشر تنفيذ هذا المشروع …
وقد أفاده وهو رئيس له، ثم أفاده وهو وزير للمعارف العمومية، لأنه عمل على تبرع الحكومة له بعشرة آلاف جنيه، وعمل على اعترافها بشهاداته، فكان ذلك سبب حياته.
ومن أعجب العجب أن أناسًا لغطوا بانتقاد الزعيم العظيم في هذه المرحلة لأنه قَبِل وزارة المعارف العمومية، وأنهم بلغ من استخفافهم بعقول الناس أن يفسروا الأمر بالرغبة في قتل الجامعة المصرية …!
والجامعة المصرية كما استقرت اليوم هي مجموعة من كليات الحقوق والطب والهندسة والمعلمين والزراعة والتجارة وغيرها من معاهد التعليم.
فلابد للسامع من عقل غير العقول الآدمية ليصدق من يقول أن قيام وزير في وزارة المعارف هو قتل لهذه الكليات وإحباط لمشروع الجامعة! ولا بد للسامع من عقل غير العقول الآدمية ليصدق هذا التناقض الذي لا يجوز في الأذهان.
سعد هو المصري الوحيد الذي يصلح لرئاسة اللجنة الجامعية … فيموت المشروع كله بانتقاله، ولا يتأتى تعويضه برئيس غيره!
وسعد — أصلح المصريين هذا — هو الذي يجني على الجامعة باختياره وتدبيره!
وليس من الشرف للعقل الإنساني أن يقول هذا قائل وأن يصدقه مصدق، ولكنه قد قيل وسُمع، وظل أناس يقولونه ويسمعونه بعد أن عمل سعد عمله في إحياء الجامعة وتأييدها، وبعد أن عمل عمله في حركة أخطر على السلطة المحتلة من كل حركة: وهي جهوده في محو الأمية وقيامه بنفسه على نشر المكاتب والمدارس الأولية، من أقصى القطر إلى أقصاه.
ومن الحق أن يذكر هذا اللغط كله في التنويه بمجد هذا الزعيم العظيم، لأنه أدل شيء على تضحية الزعيم العامل، في زمن يوجد فيه من يهذي بذلك اللغط ويوجد فيه من يستمع إليه.
***
ثم ترك سعد الوزارة فكان أول وزير مصري بقي في الحياة العامة بعد خروجه من ديوان الحكومة، بل بقي في هذه الحياة العامة نائبًا عن الأمة وعضوًا في الجمعية التشريعية، حتى جد الجد وآنت الآونة، فكان نائب البلاد كلها في المطالبة بحقوقها، والأمانة على حريتها.
لقد كان مثلًا عاليًا في عمله، وكان مثلًا عاليًا في خلقه، فخرج من الدنيا فقيرًا بالقياس إلى أفقر أمثاله وأقرانه، وقد كانت المحاماة وحدها تغني أصحابها ممن هم دونه في الشهرة والمقدرة، ودع عنك مناصب الدولة ومراكز الزعامة، وهي كنوز لمن شاء الامتلاء بالثراء والعتاد.
***
رجل كان للوطن كله.
ورجل هو القدوة العليا للمجاهدين من الشباب في كل جيل.
وقدوته بما استهدف له من افتراء خصومه، أنفع وأجدى من قدوته بما ناله من العظمة، وأحاط به من حفاوة الخلود.
لأن توطين النفس على المكاره أنفع للمجاهد المجتهد من توطين النفس على شهادة الحق وسلامة التقدير.