إذا كانت في مصر فئة لا يحق لها أن تشتغل بتوجيه الأذهان في المسائل العامة فهي على ما نرى تلك الفئة الببغاوية التي تزعم أنها تجدد وهي تتخطف الكلمات تقليدًا للمجددين من غير دراية منها بحقيقة ما تدعو إليه.
فقد يحق للمحافظ أن يوجه الأذهان على سنة القديم، ويحق للمجدد أن يوجه الأذهان على سنة التجديد. أما «المجدد المقلد» فليس هو بصالح لقيادة المحافظين ولا لقيادة المجددين. لأنه لا يحسب من هؤلاء ولا من هؤلاء.
هؤلاء المجددون المقلدون لم تنكشف جهالتهم الببغاوية في شيء كما انكشفت في احتجاجهم على تعليم الدين بالمدارس المصرية.
فلماذا لا يجوز تعليم الدين في هذه المدارس؟ هل يستند منعه إلى إرادة الأمة وهي وحدها مصدر السلطات في كل حكومة دستورية؟ هل هناك سبب تاريخي أو عصري يتعلق بنا ويحرم علينا تعليم دين الأمة في مدارسها التي تبنى بأموالها؟
ليس من ذلك شيء ينظر إليه المجددون المقلدون على ألسنة الببغاوية، ولكنهم يحتجون لأن بعض الدول في أوربة قد فصلت الدولة عن الدين ومنعت تعليم الشؤون الدينية في مدارسها.
وهذا هو الذي نسميه بالجهالة الببغاوية، لأنه يدل على جهل بأصول المسألة ودواعيها، ويدل كذلك على جهل بموقف الخارجين على جميع الأديان في مثل هذه المسألة عند تطبيقها على مدارسهم «العصرية».
فالدول التي منعت تعليم الدين في مدارسها هي الدول التي كانت في نزاع دائم مع السلطة الدينية.
والسلطة الدينية التي وقع النزاع بينها وبين الحكومات كانت تستأثر بجميع الحقوق حتى حق تولية الملك عرشه.
فقد كان الملوك يحكمون «بالحق الإلهي» ويعترفون من أجل ذلك بسلطان الكنيسة في توليتهم وإيجاب الطاعة باسم الله على رعاياهم!
وكانت السلطة الدينية تستأثر من باب أولى بشؤون التعليم جميعًا في كل مدرسة من مدارس الدولة صغيرها وكبيرها.
وكانت الجامعات كلها خاضعة لرجال السلطة الدينية، كما يدل عليه تاريخها في فرنسا وإنجلترا والنمسا وبولونيا، فضلًا عن إيطاليا وما جاورها.
وكان المعلمون من رجال الدين يدرسون الكتب التي تسمح بها الكنيسة ويحرمون الكتب التي تمنعها، ويفرضون دروس الدين وغيرها على كل طالب في المدرسة أو الجامعة.
وظلت روما — مقر الكنيسة الكبرى — مرجع جميع الحكومات في شؤون التعليم وفيما عداها من شؤون الولاية كوراثة العرش وتزاوج الأسر المالكة، وفرض القوانين والتشريعات ولا سيما في مسائل الضرائب والأملاك التي تمس الكنيسة من جهة أوقافها وحبوسها.
فلما شجر النزاع بين السلطتين كانت الدولة مضطرة إلى خطة من اثنتين في مدارسها:
فإما أن تسند شؤون التعليم إلى أناس لا يخضعون لسلطتها ولا يقررون الكتب والدروس على حسب نظامها، وإما أن تفصل ما بين السلطتين في مسائل التعليم كما فصلت بينهما في جميع المسائل المختلف عليها.
وحدث في بلاد كالبلاد الأمريكية أن تعليم الدين منع في بعض المدارس لأن الولاية يسكنها أناس من أتباع الكنيسة الكاثوليكية وأناس من أتباع الكنيسة البروتستانتية، ولا يتأتى تعليم الدين وإقامة الشعائر فيها على مذهبين.
أما تحريم تعليم الدين لأنه «شيء لا يليق» كما يتوهم بعض «الببغاويين» عندنا فلم يخطر لأحد هناك على بال، ولم يكن قط سببًا لتحريم تعليمه في بلد من البلدان.
وهذه الولايات المتحدة التي لا تفرض تعليم الدين في بعض ولاياتها للسبب المتقدم – هي التي تحرص في بعض مدارسها وجامعاتها على اختيار المذاهب والآراء التي توافق العقيدة الدينية أو لا تناقضها، بل هي التي تحرص في حملتها على منع كل مرشح يدين بغير المذهب البروتستانتي من الوصول إلى رئاسة الجمهورية.
على أن الجمهوريات الملحدة في العصر الحاضر لا تمنع تعليم مذهبها في مدارسها، بل توجب تدريس المذهب الماركسي دون غيره في معاهد التعليم من روضات الأطفال إلى الجامعات الكبرى، ويبلغ من حجرها على العقول أنها تحرم على العلماء والباحثين ما لم يحرمه أحد عليهم في ظلمات القرون الوسطى فتفرض عليهم أن تكون آراءهم ومقرراتهم في جميع العلوم مطابقة لقواعد «المادية الثنائية» بغير تصرف في أصل من أصولها أو فرع من فروعها.
والفرق واضح بين الحكومة الملحدة والحكومة المتدينة في هذه المسألة.
فإن الحكومة الملحدة تفرض على الشعب مذهبًا غير مذهبه وتأبى على أبنائه في مدارسهم أن يتعلموا مذهبًا غيره.
أما الحكومة في البلاد المتدينة فهي تعلم الشعب دينه ولا تملك بوجه من الوجوه أن تمنع تعليمه لأن مدارسها مقامة بأمواله وسلطتها مستمدة من حقوقه، وربما جاز لحكومة ترى أنها قائمة بالحق الإلهي أن تمنع تعليمًا يريده الشعب أو تأمر بتعليم لا يريده لأنها تؤمن بأن الحق الإلهي أكبر وأقوى من حقوق الشعوب. أما الحكومات التي لا ترجع إلى سند لسلطانها غير مشيئة أمتها فمن أعجب العجب أن يقال أن مبادئ الحرية هي التي توجب عليها أن تحرم تعليم الدين في مدارسها!
إنه لمن أعجب العجب حقًّا … ولكن ممن؟
ممن يفقهون ما يقولون، ولكنه لا عجب فيه حين يتردد على أفواه الببغاوات. بل هو الذي ينبغي في هذه الحالة أن يقال.