قرأت في الأهرام مقالًا لزميلنا الدكتور طه حسين بك يبدي فيه مخافته على سمعة مصر من بعض القرارات التي اتخذتها وزارة المعارف المصرية في الشهرين الأخيرين.
هذه القرارات تتلخص في منع تعليم الرقص التوقيعي وقصر بعثات البنات إلى الخارج على البلاد التي توجد فيها مساكن للطالبات بإشراف الوزارة. ثم التنبيه على المدرسات والتلميذات في المدارس الأميرية بالتزام «الحشمة» في الملابس والأزياء.
ويسرنا أن نقول أن هذه القرارات جيمعًا لا خوف منها على سمعة مصر ولا على سمعة الوزارة التي تتولى فيها شؤون التربية والتعليم.
نقول هذا ولا يمنعنا قوله أن نعود إلى الرأي الذي نشرناه من قبل عن الرقص التوقيعي وموافقته لآداب التعليم في مدارس البنات.
فمن رأينا أن الرقص التوقيعي رياضة مهذبة لا غبار عليها وليس فيها ما يأباه الوالد لبنته والأستاذ لتلميذته. وقد اطلعنا بعد كتابة رأينا هذا على حديث صحفي مع صاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت وهو عالم أزهري فاضل لا يتحرج من غير الحرج المحظور في الدين والعقل، فبدا لي من كلام الأستاذ أن الرياضة لا تكون على النغمات الموسيقية وأنه من أجل ذلك يشك في حسبان الرقص التوقيعي من الرياضات التي يجوز تعليمها للبنات. ولكن الواقع أن مصاحبة الموسيقى للألعاب الرياضية مألوف في كثير من التمرينات، وأن الرقص التوقيعي يجري تعليمه أحيانًا على التصفيق باليدين والدق بالقدمين، فلا تناقض بين الإيقاع الموسيقي والرياضة البدنية، ولا حاجة مع ذلك إلى آلات موسيقية غير أبسط الآلات في تعليم البنات تلك الرياضة المشروعة.
ولهذا أعود فأقول أن الرقص التوقيعي درس مفيد لا غبار عليه، ولا يفوتني أن أذكر هنا ما قرأناه من علة إلغائه في المدارس الأميرية هذا العام، فقد نشرت الصحف أنه ألغي لحاجة تلك المدارس إلى حصص جديدة تخصص لتدريس المواد التي أضيفت إلى البرامج أخيرًا ومنها الدروس الدينية.
وقد يصح هذا أو لا يصح، ولكنه على الحالين لا «يهدد» سمعة مصر في بلاد العالم، ما دامت مصر لا تحرم الرياضة البدنية على البنات، وما دام العارفون يعلمون أن النبي عليه السلام نفسه كان يسابق زوجاته ويسمح لهن بمشاهدة الرقص الذي لا يعاب.
أما القرارات الأخرى فقد تهدد سمعة مصر إذا وقع الخطأ في نقلها كما يظهر من كلام الدكتور طه حيث قال: «هل يعلم رئيس الوزراء أن شركة من شركات الأنباء أذاعت في أوربا وأمريكا أن وزير المعارف المصري يشتد أعظم الشدة وأقساها في حماية التقاليد العتيقة فيمنع الفتاة المصرية من أن تعبر البحر أو المحيط إلى أوربا وأمريكا لأنه يخاف عليها الفساد؟»
فالشركة التي نقلت الخبر على هذه الصورة قد أخطأت في نقله خطأ لا وزر فيه على مصر ولا على وزارة من وزاراتها، لأن الأمم كلها تصنع ما صنعته وزارة المعارف المصرية في تحريها للبيئة الصالحة التي ترسل إليها أبناءها وبناتها. ولا ضير على وزير مسؤول عن الطلاب إن قصر بعثات البنات على البلاد التي يضمن فيها سلامة المأوى لهن وحسن الرعاية لآدابهن، فإن الدول قديمًا وحديثًا قد تعودت مصاحبة أبنائها وبناتها في الغربة بمن يرشدهم ويسهر على سمعتهم وكرامتهم ويبلغ المراجع المسؤولة عن أحوالهم ونتائج تعليمهم، ولا يعتبر أحد من الأوربيين أو الأمريكيين أن عمله هذا مخل بحرية الطالب والطالبة أو مخالف لأصول التربية الحديثة، ولا نحسبهم يعتبرون أن اختصاص الفتاة بعناية أكبر من العناية بالفتى أمر مستغرب أو مناقض لطبائع الأشياء. فإنه من الجائز — بل من الواجب — أن تكون الوقاية من الأخطاء على قدر العواقب التي تنجم عنها. فلا ضير إذن من اختصاص الفتيات بوقاية أشد وألزم من وقاية الفتيان.
ونحن بحمد الله على استعداد دائم لأن يشاع عن وزارة معارفنا في كل يوم بل في كل لحظة أنها تحرم التبرج على المعلمات والمتعلمات. فإننا لا ندري ما هو التنزيل الذي يبيح لواضعي (المودة) أن يحكموا بإطالة الملابس في بعض المواسم فيطاعوا بغير احتجاج على الاستبداد والرجعية ثم تقوم القيامة على الاستبداد والرجعية إذا جاء هذا الأمر من واضعي برامج التعليم!
بل نحن لا ندري لماذا يصح في الحفلات الرسمية أن تحرم الملابس القصيرة ولا يصح ذلك في المدرسة ومعهد التعليم؟
فإذا كان غاية ما يصيب السمعة المصرية أن يقال في الخارج أن تبرج البنات ممنوع في مدارس مصر فما نحسب في هذه المقالة شيئًا يقلق الدكتور طه على سمعة البلاد، ولعله خليق أن يقلق إذا قيل على عكس ذلك أن التبرج عندنا مسكوت عنه أو مأمور به في بيئة المعلمات والمتعلمات.
***
وقرأت في بعض المجلات أن كاتبًا غير الدكتور طه حسين بك قد شن الغارة على وزير المعارف وعلى كاتب هذه السطور لأنهما لا ينكران تعليم الدين في مدارس الحكومة.
وهذا الكاتب على ما نعلم من سوابقه واحد من أولئك الببغاوات الذين يرددون ما لا يفقهون كلما تحدثوا عن الحرية والتقدم في العصر الحديث.
فهو لا يفقه أن مسألة التعليم الديني في مدارس بعض الأمم الأوربية مرتبطة بالنزاع الطويل بين السلطة الدينية وسلطة الدولة، وأن السلطة الدينية في تلك الأمم كانت تستمد أحيانًا من حكام أجانب عنها يقيمون في بلاد غير بلادها.
وهو لا يفقه أن الدول التي خلت من ذلك النزاع لم تحرم تعليم الدين في مدارسها، بل منها ما أوجبه ومنع تدريس بعض العلوم التي لا توافق العقائد الدينية، كما حدث في الولايات المتحدة وهي أحدث البلاد على الأقل في ترتيب التواريخ!
بل هو لا يفقه أن مصادرة الحرية هي مصادرة التعليم الديني في المدارس التي تقام بأموال دافعي الضرائب ثم ترفض أن تعلم أبناءهم ما يدينون به من المعتقدات.
فمن أين تستمد الدولة هذا الحق المخالف لكل معنى من معاني الحرية والدستور؟
إن ثرثرة الببغاوات لا تكفي لإنكار الحقوق وتسجيل الحقوق، ولا مشابهة بيننا وبين الدول التي فصلت تعليمها عن السلطة الدينية إلا أن تكون المشابهة في مذهب الببغاء.
على أن صاحبنا هذا يعجب بكارل ماركس غاية الإعجاب ولا يقول لنا ما هو رأيه في المدارس التي تجبر كل طفل على اعتقاد مذهبه وتحرم على كل عالم أو متعلم أن يهتدي في العلوم التجريبية إلى كشفٍ ينقص حرفًا واحدًا من حروف المادية الثنائية.
ولعله «يبغبغ» لنا شيئًا من إنكار هذا الطغيان وهذا الحجر على التعليم … فإنه إذا بغبغ لنا شيئًا في إنكاره صدَّقنا أنه يكره المذاهب المفروضة كلها ولا يكرهها فقط حين يكون المذهب دين محمد أو دين المسيح …