إذا كان الأوان قد آن لانعزال الصحافة عن الرأي العام في المسائل القومية فذلك شيء يؤسف له من ناحية ولكنه قد يدعو إلى الغبطة والاطمئنان من نواحي كثيرة.
فمن المصلحة الوطنية أن يكون الرأي العام مستقلًّا عن الصحافة وعن الساسة وعن الأحزاب السياسية.
وقد ظهر من تجارب الأمم العريقة في الديمقراطية أن الصحافة كلها قد تكون في جانب والرأي العام في الجانب الآخر، ويظهر ذلك بصفة خاصة عند عرض المسائل الكبرى التي يطلب فيها من الأمة أن ترسم اتجاهها وأن تعبر عن موقفها، كما يجري في الانتخابات العامة.
ففي سنة 1936 كانت الصحافة الأمريكية كلها على وجه التقريب تحارب فرانكلن روزفلت وتنبئ بخذلانه في المعركة الانتخابية، ولكنه خاض المعركة بقوة وثقة وخرج منها بنجاح نادر منقطع النظير في انتخابات الرئاسة الحديثة.
وعادت الصحافة بعد أربع سنوات إلى تلك الحملة العنيفة على الرئيس الذي يتصدى لغضبها ولا يحفل بحملاتها. واعتمدت في هذه المرة على نفور الرأي العام من الاشتراك في الحرب الأوربية وميله إلى خطة العزلة القديمة في الشؤون العالمية، وكان المشهور عن الرئيس روزفلت أنه مقبل على الحرب معترض على العزلة، فظن الكثيرن أنه مخفق وأن الصحافة التي تحاربه ناجحة ظافرة. ولكن حدث في المرة الأولى تكرر في المرة الثانية، وكان مقدمة لانتخاب الرئيس أربع مرات على خلاف ما حدث في تاريخ الولايات المتحدة وتواريخ جميع الجمهوريات.
وتحققت هذه الظاهرة على صورة مختلفة في البلاد الإنجليزية بعد هزيمة ألمانيا واليابان. فإن المستر تشرشل كان هو رئيس الوزارة المنتظرة في رأي الصحف الإنجليزية التي كانت تتنبأ عن نتيجة الانتخاب لأنه صاحب الفضل في تلك الهزيمة وصاحب الحظ الأوفى من الدعوة الصحفية.
ولكن النبوءة لم تتحقق كما أرادتها الصحافة وانتصر الرجل الذي كانت له صحيفة واحدة، وانهزم الرجل الذي كانت له، أو كادت أن تكون له صحف إنجلترا بالإجماع.
ومصر قد عرفت ظاهرة كهذه الظاهرة في إبان الحركة الوطنية التي قادها زعيمها الأكبر سعد زغلول، فكانت الصحف كلها مسخرة لمحاربته أو واقفة منه في موقف الحيدة الاضطرارية، ولم تكن الصحيفة التي تناصره تأمن الإغلاق والمصادرة؛ ولكنه كان يقول فيسمع وكانت الصحف تقول فلا تعبر بما تقول عن أحد غير من يسخرونها أو يستأجرونها.
والآن نذكر هذا لأننا على ما نعتقد نرى هذه الظاهرة تتكرر في الرأي العام المصري أو يوشك أن نراها.
فقد انفردت جريدة «الأساس» وحدها بالكتابة عن أعمال عبود باشا ومناوراته التي تخالف القانون ولا تحفل بالدستور ولا بالمصلحة العامة.
وسكتت الصحف جميعًا.
وسكتت الأحزاب جميعًا.
وسكت جميعًا أولئك الذين كانوا يشنونها حربًا لا تنقطع من أجل إشاعة يسمعونها أو إشاعة يختلقونها، وهي لو صحَّت لم يبلغ من صحتها أن تمس دستور البلاد وأن تصيب الأمة بخسارة الملايين واختفاء الأقوات في ظلمات السوق السوداء.
فهل عبرت الصحف والأحزاب بسكوتها هذا عن الرأي العام؟
كلا على التحقيق. لأنني لم أجد في الرأي العام صدى لكتابة صحيفة كالصدى الذي وجدته للكتابة عن أعمال عبود باشا ومناوراته.
وقد ترددت أثناء هذه الكتابة بين القاهرة والإسكندرية ولقيت أناسًا من الصعيد ومن أقاليم الوجه البحري فوجدتهم على إجماع تام في هذا الموضوع.
ومن هؤلاء أناس متعلمون مهذبون استوقفوني معتذرين في الإسكندرية وأعربوا لي عن عجبهم من سكوت الصحافة والأحزاب عن ذلك «النفوذ الخطر» الذي يستأثر به الرجل وأعوانه، وقال لي بعضهم — ولم أكن أعلم — أنه حتى «الكتلة» التي لا تسكت عن أحد ساكتة عن عبود … وقال لي غيرهم أنه حتى الأحزاب المثالية الأفلاطونية ساكتة عن عبود … وقد أصبح الكلام عنه وعن مناوراته حديث العارفين وغير العارفين.
إن كانت هذه الظاهرة من دواعي الغبطة في بعض نواحيها فهي من ناحية أخرى تؤكد ما أسلفناه غير مرة من وصف ذلك النفوذ بالخطر، لأنه يستطيع ما لا تستطيعه الأحزاب السياسية التي لا تأمن المهاجمة في عمل من أعمالها المشكورة والمأزورة على السواء.
وليس أخطر من النفوذ الذي يتحدى القانون جهرة ولا يتصدى له أحد بمجرد التذكير أو الانتقاد.
وليس أخطر من النفوذ الذي يحرم الدولة حقها في أربعة ملايين من الجنيهات ثم تقابله الصحف بالسكوت المطبق أو بالحمد والثناء.
وليس أخطر من النفوذ الذي لا يبالي بالأسعار ولا بالضرائب ويأخذ من الأمة والحكومة ما يفرضه عليهما من الأرباح بغير منازع ولا حسيب.
وليس أخطر من النفوذ الذي يتحكم ذلك التحكم في الربح ويتحكم مثل ذلك التحكم في المنافسة والمزاحمة، فلا يتمكن أحد من منافسته أو مزاحمته فيما يجمعه من الملايين في غفلة عن الحسيب والرقيب.
وإذا كان هذا النفوذ هو نفوذ «الدوائر المالية» كما يقولون فهذه الدوائر المالية لا تساعد عبودًا إلا لأنها تطلب شيئًا من وراء هذه المساعدة.
وقد يبدو هذا الشيء من خلال السطور وليس من الضروري أن يظهر بالمقال الصريح.
فصحيفة «الأيكونوميست» لسان الدوائر المالية في البلاد الإنجليزية تقول «إن الجلاء عن مصر لا يكون».
وصحيفة الأيكونوميست تقول لقرائها أن ثمانين في المائة من الشعب المصري مع الوفد … وأن جهودًا كبيرة تبذل الآن للموازنة بين الأحزاب … «ولكن الأمور لا تجري وفق هذه السياسة المرسومة. إذ أن النحاس باشا عندما سمح باشتراك أربعة من أعضاء حزبه في الحكومة الحاضرة كان معنى هذا أن الوفد قد بلغ منتصف الطريق إلى الحكم، إذ أن اشتراك الوفد في الحكومة قد أدى إلى انعاش الروح الوفدية … » إلخ إلخ إلخ.
هذه الملاحظات والأقاويل يجتمع بعضها إلى بعض فتدل على شيء كثير.
فالدوائر المالية تعمل.
والمناورات الحزبية تعمل.
وعبود باشا وأعوانه يعملون.
وليس من الضروري أن تتفق الأغراض إذا كان لكل من هؤلاء غرض يسعى إليه ويتوخاه.
ولكن من الضروري أن تعرف الأمة وجهتها بين هذه الأغراض المختلفة.
فليس السكوت المطبق حول هذه الأغراض من بشائر الخير.