قال لي أديب يحار من موقف الصحف المصرية، والأحزاب المصرية، والساسة المصريين، من مناورات عبود باشا ومطامعه التي أصبحت لا تخفى على أحد:
«إذا كان هذا فعل واحد من أصحاب الملايين فكيف يكون حالنا لو كان في مصر مئات من أصحاب الملايين كما في البلاد الأمريكية؟
إن الصحف تسكت عن أعماله الظاهرة المكشوفة كما تسكت عن مناوراته الخفية.
إن الساسة يخدمونه أو يستعدون لخدمته أو لا يجسرون على الوقوف في طريقه!
إنه يستغل المناورات الحزبية لأن المناورات الحزبية لا تستغني عن المال ولا عن معونة الدوائر المالية.
إن الدوائر المالية تعمل على أساليبها المعهودة لمحاربة الساسة المصريين الذين يخلصون في خدمة بلادهم ويقدمون مصلحة الضعيف الأعزل على مصلحة الأقوياء المزودين بأسلحة الدعوة والنفوذ.
كل هذا وليس عندنا صاحب ملايين يخوض في هذا الميدان بين مطامع المال والسياسة غير عبود باشا وشركائه. فكيف لو كان عندنا عشرون عبودًا أو مائة عبود كما في الولايات المتحدة؟»
والحق أن سؤال الأديب الحائر من الأسئلة التي تخطر على البال ولكنه سؤال سريع تدعو إليه الحيرة العاجلة. لأن تجارب الحياة الديمقراطية في الولايات المتحدة قد أظهرت للناس أن الشرور الكثيرة يدفع بعضها بعضًا ويقف بعضها لبعض بالمرصاد. أما الشر الواحد فقد يبقى مجهولًا إلى زمن وهو لا يجد من يحاربه بسلاحه، ثم لا يزال مجهولًا بين الناس حتى تتجمع جرائره فيكون العلم به على حساب ضحاياه.
إن استخدام النفوذ المالي في السياسة الحزبية شر لا شك فيه ولكنه شر يهون إذا تعدد، لأنه يعمل متفرقًا فينكشف، أو يعمل بكثير من الوسائل فلا تخفى هذه الوسائل الكثيرة على من يتعرضون طويلًا لهذه الشرور.
وأصحاب النفوذ المالي في الولايات المتحدة كثيرون، ووسائل الدعوة السياسية هناك كثيرة، لأنها تشمل الصحافة والإذاعة والصور المتحركة والكتب المؤلفة والأندية والجماعات.
ومع هذا كله قد استطاع رجل كروزفلت أن يهزمها جميعًا في أكثر من معركة كبيرة. فنجح في الانتخاب على الرغم من اجترائه على أصحاب الملايين وعلى الصحافة وعلى الشيوخ والنواب في بعض الأحيان.
ونعتقد أن ما حصل في الولايات المتحدة خليق أن يحصل في مصر إذا تعددت نواحي النفوذ في أيدي أصحاب الملايين.
بل نعتقد أن النفوذ الواحد ينكشف لا محالة إذا تمادى في مناوراته ومطامعه، لأنه يطغى مع التمادي فيخرج عن حده ويضطر الغافلين إلى التنبه له والوقوف له بالمرصاد.
وقد وصل نفوذ عبود وشركائه إلى الطغيان الذي لا يطول السكوت عليه …
ولولا ذلك لما خطر له أن يستكثر على البلد الذي يكسب منه الملايين أن يؤدي له حصته من الضريبة وهي أقل ما يؤديه له من الحقوق.
ففي الزمن الذي يرى فيه الناس رجال الشرطة يطاردون صغار الباعة في الطرقات والأزقة ليستوفوا منهم رسوم الرخص والبطاقات الشخصية، وفي الوقت الذي يحاسبون فيه صاحب الدكان الصغير على كرسي يضعه أمام دكانه أو على دراجة يشغل بها الطريق …
وفي الوقت الذي تلجأ فيه الحكومة إلى الإصلاح الضرائبي لتحقيق بعض العدل بين الضرائب والأرباح …
في هذا الوقت يطمع عبود وشركاؤه في السيطرة على سياسة مصر دون أن يكلف نفسه حصة من الضريبة التي لا يعفي منها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، وتمضي السنة بعد السنة ويصدر الحكم بعد الحكم وهو مُصِر على احتجاز حقوق الدولة لديه حتى تتراكم وتبلغ الملايين، وأن الدولة مع هذا ليوشك أن تهم بالاقتراض لاحتياجها إلى شيء من هذه الملايين.
إن الذي يطمع في السيطرة على سياسة أمة لا يستكثر عليها التبرع من صميم ماله لكسب رضاها وتسويغ نفوذه فيها؛ فهل يبلغ من هوان مصر على الرجل وأصحابه أن يضن عليها بالضريبة التي لا تبرع فيها؟ وهل يجوز له مع هذا أن يطمع في السيطرة على سياستها والمداورة بين ساستها وأحزابها والعمل الدائم على احتكار أسواقها ومرافقها؟
وما الذي يسوغ له هذا الطمع وهذه الاستهانة؟
سكوت الصحف؟ سكوت الساسة؟ سكوت الأحزاب؟ تأييد أصحاب الأموال في البلاد الخارجية؟
بعدك يا سيد عبود …!
إن الناس لأيقظ مما تظن، وإن الأمر لأصعب مما تتوهم. فإن سكوت الصحف والساسة والأحزاب يجوز أن يخدع الناس زمنًا طويلًا في المسائل التي تقبل الجدل والخلاف.
ولكن أي سكوت يجدي في ملايين الضرائب المستحقة، وفي مئات المحاضر المسجلة، وفي غلاء السلعة التي يسأل عنها طلابها في كل ساعة؟
إن الذي يسكت عن هذا يسقط ويتعود الناس سكوته على الباطل فلا ينتظرون منه كلامًا ولا يهمهم أن يقول أو لا يقول.
وإن الساكتين ليسقطون فعلًا في هذه الأيام، وسوف يجدون لا محالة أنهم محرجون إلى الكلام.
سوف يجدون لا محالة أنهم محرجون إليه ولو اقتصر الأمر على الضرائب والمخالفات والأسواق المحتكرة، ولكنه لا يقتصر عليها ولا يزال يبدو للغافلين — فضلًا عن العارفين — إننا في دور التمهيد لما هو أخطر وأعظم، وهو الفصل في مستقبل البلاد الصناعي ومستقبلها السياسي؛ ولن يتأتى الفصل في هذا أو ذاك في غمرة من السكوت الذي يمكن أن تتواطأ عليه الصحافة والأحزاب.
إن مائة شر خير من شر واحد، ولكن الشر الواحد إذا تمادى كان تماديه نفسه مؤذنًا بانتهائه.
والشر المتمادي إذن خير من الشر الذي يعتدل، فيطول به البقاء في ظل الاعتدال.