صحيفة «المصري للمصريين» تتحدث عن الغلاء حديثًا أفلاطونيًّا من ناحية، عبُّوديًّا من ناحية أخرى.
والأفلاطونية والعبُّودية هما الطرفان المتناقضان. لأن الأفلاطونية لا تبحث عن فائدة غير البحث، والعبودية تبحث عن جميع الفوائد ولا يهمها من البحث غير البحث عن الذهب والأوراق الذهبية!
وصحيفة المصري للمصريين قد تحدثت عن الغلاء أمس حديثًا تقرأه من ناحية فيخيل إليك أنه بحث عن الغلاء في المريخ، لأنها لا تذكر منه غلاء السكر وما يجر إليه من غلاء سائر الضروريات، ولا تذكر الغلاء الذي يسري في القطر لا محالة كلما شاع بين الناس أن مخالفة التسعيرة — بل مخالفاتها الكثيرة — مسموح بها غير معاقب عليها … ولا تذكر سوء الحال الذي يجر إليه طرد الألوف من العمال وإغلاق المصانع بغير تمهيد ولا إمهال … ولا تذكر سوء الحال الذي يصيب الدولة من خسارة الملايين تستحقها عند دافعي الضرائب، وهي لازمة في كل مشروع من مشروعات الإصلاح وتيسير المعيشة للفقراء.
فمن هذه الناحية كان بحث «المصري للمصريين» في موضوع الغلاء بحثًا أفلاطونيًّا لا فرق فيه بين حصول الغلاء في وادي النيل أو حصوله في قطر من أقطار المريخ، إن كانت في المريخ أقطار!
ومن الحسن أن يطير الإنسان إلى المريخ ليهرب من مواجهة عبود بسؤال عن السكر الذي يحجزه وعن الضرائب التي يحجزها وعن كل شيء يحجزه أو لا يحجزه من وراء ستار.
وأحسن من هذا أن يهبط إلى الحضيض ليخدم عبودًا فيما يهمه … فيقول أن الغلاء إنما يحارب «عن طريق تشجيع الإنتاج في مصر بالوسائل العلمية الصحيحة التي تستند إلى الكفاية وحدها: كفاية الآلات وكفاية العمال والكفاية الإدارية … لا عن طريق فرض رسوم جمركية عالية على السلع المستوردة من الخارج».
وبعبارة أخرى صريحة جدًّا لمن يقرأ بين السطور ترى «المصري للمصريين» أن محاربة الغلاء إنما تكون بتجديد الآلات وتوفير الآلات وحماية الآلات وغير ذلك من شؤون الآلات التي تمكن السيد عبود من ترميم الآلات بملايين الجنيهات من خزانة الدولة، وباحتجاز الضرائب المتراكمة تعويضًا لما أصاب تلك الآلات …!
هكذا يحارب الغلاء!
أما الحماية الجمركية فهي واجبة فقط لتمكين عبود من احتكار السكر والسيبرتو، ولكنها غير واجبة — بل مكروهة مرفوضة — إذا كان من ورائها فائدة للمصانع المحلية التي يبغضها السيد عبود ولا يضن عليها بمساعيه «الحميدة» في الداخل والخارج منذ سنوات.
وهكذا تطير المصري إلى المريخ وتهبط إلى الحضيض في لحظة واحدة وهي تتحدث عن الغلاء.
وهكذا تصبح المصري لسان حال عبود والعبوديين، فلا تعرض لمخالفاته ومناوراته بكلمة واحدة، ولكنها لا تكف يومًا عن تبشير الناس بأخبار السعديين «الانفصاليين» والسعديين المنشقين والسعديين المتمردين، وغير ذلك من أصناف السعديين!
لأنهم أغضبوا عبودًا وحاسبوه وسألوه، فهم لذلك جديرون بالسخط من «المصري للمصريين».
ولا شك أن المصري للمصريين مصرية جدًّا حين تحمل هذه الحملات على السعديين ولا تشير إلى المستعمرين بكلمة واحدة وهم يمهدون لدوام الاحتلال وتأخير الجلاء إلى أبعد الآجال.
إنها لا تشير إلى المستعمرين بكلمة واحدة تنكر بها ذلك التمهيد الذي دأبت على نشره منذ شهور.
فقد أصبح من مألوفات المصري وزميلاتها في الشهور الأخيرة ترديد الكلام عن المحتلين وعزمهم على البقاء واعتراضهم الشديد على الجلاء.
وليست أولى الكلمات ولا آخرتها تلك الكلمة التي أوردها في مقاله بالأمس زميلنا الفاضل رئيس تحرير «الأساس». فإن مراسل المصري يقول في تلك الكلمة أن مصر «ليست بالدولة الوحيدة التي تحتلها القوات الأجنبية وأن بريطانيا نفسها تعاني اليوم مرارة الاحتلال، ولكنها لا تتحدث عنه … لأن معظم الناس يدركون ما وراء الاحتلال الأمريكي من ضرورات الدفاع».
يقول مراسل المصري ذلك في هذه الكلمة ولا يزيد في مدلولها شيئًا على ما نقلوه قبلها وبعدها من مجلات الدوائر المالية وصحفها وجماعة الماليين والعسكريين الموعزين إليها.
فكل هذه الرسائل فحواها واحد لا يتبدل، وهو أن الاحتلال باقٍ والمستعمرين لا يفكرون في الجلاء.
وكل هذا لا يستحق من المصري للمصريين حملات متواليات كتلك الحملات اليومية على السعديين، وهي تزعم أنها تغار على الائتلاف.
لأن السعديين يحاربون مطامع عبود والمستعمرين لا يحاربونها … وقد ضربت المصري أحسن الأمثال في الوطنية، ولا تزال كما قيل لها «في موكب الحق … تحمل الراية وتواصل كفاحها لتحقيق الغاية …».
والغاية هنا ظاهرة لا خفاء بها على أحد، لأنها هي الغاية التي ترضي عبودًا ومن وراءه من أصحاب الملايين، وترضي المصري للمصريين ومن وراءها من الوطنيين الغيورين، وتسمح للمستعمرين بذلك الكلام في غير حرج ولا ملام!
إن وراء الأكمة ما وراءها وإن الأمور لتكشف عن وجهها، وتسفر غدًا كالصبح لمن يشك في دخيلتها، وأقسم إننا لنود أن تكذبنا الأيام، ولكننا لا نود أن نؤخذ على غرة، أو نتخبط في الظلام.