الكاتب: مي زيادة
الناشر: المحروسة
تاريخ النشر: 29 سبتمبر 1915
أهلًا برسائل العيد الجميلة ومرحبًا ببركاته الحلوات! نكاد نحسب الظروف المختومة أجنحةً تستريح بعد طول المسير، ونكاد نسمع بين السطور زقزقة ونتخيل حفيف الأوراق تغريدًا، إنها تختلف عن رسائل العام جميعًا، وسواء كانت التهاني آتية من أعماق القلب، أو من أطراف الشفاه، أو من حركات الأقلام فقط، فإن لها على كل حال معنًى حسنًا يمازجه شيء من العظمة وأنس كثير، عيد سعيد، هذه الكلمة وأخواتها أصبحت تافهات كجميع العبارات التي كَثُرَ استعمالها بين البشر فكان معناها الجوهري مفقودًا، ولكن متى كان الناس مصدقين كل ما يقال لهم؟ ومتى كانوا معرضين عمَّا كان لطيفًا مرضيًا غير قانعين بالعواطف المندفعة بقوة؟
لا، لا، كفى الاجتماع صفاته، كفانا أن يتظاهر مُحدِّثنا بالإخلاص وكفاه منا ذلك مقرونًا ببسمة لا تعني شيئًا من هيبة وكثيرًا من لوامعه، وهذا كل ما يُطلَب منا.
فدع «روسو» يبكي حينًا، ويرمي الجمعية التي أوجعته بسهام انتقاده حينًا، دع أمثاله يوالون أبحاثهم، وأتباعه يُردِّدون شكواهم، أما نحن فدعنا نضحك، نضحك في أيام العيد، على الأقل، دعنا نبتهج برسائلنا كما يفرح يتامى القتلى بلعباتهم.
الرسائل! إن كلًّا منها تحمل عالم أسرار ومسرات، مهما كان مسطورها تافهًا، فنوع الورق، وأشكال الرسوم، وأسلوب الكتابة، وتنسيق العبارة، واختيار الألفاظ، وكيفية التوقيع، حتى المسافات المتروكات بين كلمة وكلمة وسطر وسطر، تَنُمُّ عن ذوق مراسلك وميوله وعن بعض صفاته وعيوبه، ألا يلذ لك درس امرئ في رسالة أو في كلمة؟ ولئن اقتصر في معظم رسائل المعايدات على عبارات منسوجات قديمًا لم يقوَ الزمان عليها ولم يأكل البلى منها شيئًا — كأنَّها موميات حنَّطها نفر من الجن — فهي على ذلك تحمل من دلائل الشخصية أكثر ما تحمله الرسائل العادية، وتلك الرسائل تأتي إليك بعد مسير ساعات أو أيام أو أسابيع، فتمثل أمام عينيك صورة كاتبها، ونغمة صوته، وأدق مميزاته، وذلك الشيء العجيب الذي لا اسم له وهو الذي يجعل لكلٍّ شخصيته الخاصة، فتذكره وتتلمس أثر ذكره في نفسك.
أرسائل العيد ما أحلاكِ! وكم يُسَرُّ المرء وأنامله تداعبكِ بينا تحوم حول فكره كسرب نحل، أو كنغمات أغنية قديمة! يقلبكِ ويطيل النظر في صفحاتكِ ويبسم لكِ كطفل صغير، ثم يضعك بقرب ما سبقكِ من السابقات، فتنتظرين معهن رسالة أخرى تُضاف إليكِ ونظرة جديدة تلقى عليكِ، وكم تسمعين مثل هذه العبارة: «ما أكثر الذين فكروا بي في هذا العيد!» أجل، ليست المواسم إلا ظروف تذكير، وليست معاني الأعياد في ذاتها إلا شدة التفكير في حادث أو شخص تعود النفس إليه في ماضيه وتحيا معه قليلًا، إذا كانت الأعياد أعيادًا لكثيري الأحباب والأصدقاء فيا ترى كيف يسميها المنفردون؟ وهلا تكون إلا أعياد دموع لذوي القلوب الحزينة؟
ربي! كيف يكون ذلك؟ أيام نفوس تقترب من نفوس، وغرباء تراسل غرباء، أيام كلٍّ يجد له صديقًا أو شبه صديق، أيكون هناك أناس من خلائقك، من عبيدك، من أبنائك، أناس لا يشعرون بأحاديث القلوب ولا يذقوون نجوى التذكارات؟
ولعل هناك من يشعر بمثل تلك الوحدة القاتلة حتى بين الأصدقاء وإزاء عشرات الرسائل ومئات التهانئ! لعل الوحشة في الاجتماع أمرُّ وحشة، والانفراد في وسط الجمهور أوجع انفراد … ولعل للنفوس المنفردة حالات يأس تشبه يأس الجثث المطروحة ممدودة الذراعين مغمضة العينين في ساحات الوغى …!
ربي! هذه رسائل العيد، ولكن، مُرِ الأرضَ أن تضم إلى صدرها صغارها لئلا يوجعها البرد، ومُرْ شمسَ حبِّك أن تبعث بأشعتها إلى النفوس الحزينة في وحدتها فتذيب ثلوجها، إن النفوس كالجثث الخالد يأسها، يوجعها البرد كثيرًا.
ربي! يبكون في الدنيا دموعًا ويبكون دماءً، فمن يحفظ الدموع في مآقيها ومن يحبس الدماء في أجسامها؟ من؟