لقد كَثُرَ نشوب الحرب في هذا العام حتى جاز القول في الحرب إنها «على المودة»، ولقد كانت تنهَدُّ منَّا القُوى كلما علمنا أن دولة أشهرت الحرب على دولة أخرى، أما الآن فإننا ننظر شزرًا إلى الدول الواقفة على الحياد، كأنها واقفة لنا بالمرصاد، وكأن الأذى — كل الأذى — يأتينا من المسالمين لا من المهاجمين! وهكذا يتدهور العالم بقواه إلى الهلاك، منشدًا نشيد الموت والنصر.
ولكنا ما زلنا نعجب كيف أقدمت ألمانيا على هذه الحرب الهائلة، وكيف لم تجتهد في أن توفر على البشر هذا الشقاء العميم، مع أنها — على رغم جنونها العسكري — أمة راقية ناهضة في عالم الشعر والعلم والفلسفة والموسيقى، تركت ألمانيا أسماء عظيمة وآثارًا خالدة فكيف نسيت كل ذلك لتتبع جنونها الدموي ليس إلا؟
نشر كاتب أمريكي في إحدى مجلات وطنه مقالًا يقول فيه: إن العلم لم يزد الألمان إلا وقاحة وخشونة وهمجية لأنهم قوم فاقدون «للغريزة الاجتماعية»؛ فلذلك لم يهتموا في ارتقائهم إلا بالاستعداد لقهر الشعوب، وما كانت أعمالهم منذ نصف جيل إلا أعمال الطمَّاع الخبيث الذي توحي إليه أغراضه ذكاء، ثم قال إنه ليس للألمان آداب تُذكَر، وإذا قطعنا النظر عن شاعرها الفيلسوف هاينرتش هايني، فإنا لا نعرف اسمًا جرمانيًّا اشتهر كاسم دكنز الإنجليزي، قد يكون الأستاذ الأمريكي مصيبًا، غير أنه لمن الغرابة أن لا يذكر أن العامل الأكبر في شهرة دكنز هذا هو كتاب «مارتن تشازلوت» الذي ألَّفه بعد عودته من أمريكا وقد أشبع الأمريكيين نقدًا وتهكمًا في خلال فصوله.
نعم، إن الآداب الألمانية دون الآداب الفرنساوية بدرجات، وغنى اللغة الفرنساوية النثري يفوق جميع اللغات المعروفة لدينا، غير أنَّ في ألمانيا أدباء انتقاديين خصوصًا، أدباء مدَّعين متعجرفين متهكمين تهكمًا في منتهى الخشونة، فهم هم دائمًا سواء كانوا في ساحة الطعن والقتل أو في ساحة الفكر والكتابة.
فإذا ذكرنا جوثي الكبير نذكر معه جملته الشهيرة: «إلى الأمام، إلى الأمام، ولو على الجثث»، وإذا ذكرنا نيتشي ذكرنا أنه كتب ضد بني وطنه فصولًا مِلؤُهَا التهكم والمرارة، وأما هايني فإنه قضى عمره مرذولًا من إخوانه وله فيهم انتقادات تليق بفكره العميق وبخشونتهم المتزايدة، فضلًا عن أنه ترك الجنسية الألمانية وتجنَّس بالجنسية الفرنساوية في أيام نابليون الثالث كما أنه قضى أهم أيام حياته في فرنسا ومات ودُفن هناك، وإذا ذكرنا بيتهوفن ذكرنا أنه دُفن فقيرًا مجهولًا مكروهًا، وظهر أخيرًا أنه لم يكن ألمانيًّا بل كان من والدين بلجيكيين، وإذا ذكرنا جرهارت هوبتمن — وهو أعظم كُتَّاب ألمانيا العصريين الذي تفوق منذ عامين على الكاتب الفرنساوي الشهير أناتول فرنس وحصل على جائزة نوبل — فقد كان من مُوقِّعي الكتاب الذي بعث به علماء الألمان منذ أكثر من شهرين إلى علماء العالم فيه يؤيدون عمل ألمانيا وخطتها العمرانية وينكرون أنها أتت شيئًا قبيحًا كتخريب كنيسة ريمس وغيرها.
ولو أحصينا جميع الأسماء الألمانية الخالدة لقسمناها إلى قسمين: القسم المتطرف للجرمانية، أو للبانجرمانسم مثل غوثي، والقسم المتطرف ضد الجرمانسم مثل هايني، يعزينا اسمٌ ألماني واحد وهو اسم كارل ماركس مؤسس الاشتراكية، ولكن لا يغيبنَّ عن أذهاننا أن ألمانيا أرغمت زعيم الاشتراكيين الحالي على الخدعة في ساحة القتال عقابًا لتمرُّده واحتجاجه على همجيَّتها.