يرى مسيو بوشي لكلرك عمل الرومان حسنًا لأنه معتقد أن القياصرة ومن التفَّ حولهم أو عمل بأمرهم لم يكونوا يسعون إلا إلى مكافحة التعصب والدفاع عن حرية الضمائر الغالية، ما هي أقوال المسيحيين يومئذٍ؟ هذه هي: «جميع الأديان باطلة وديننا وحده قويم، ومتى صرنا الأكثرية سنحذف تلك الأديان». أما الوثنيون فهم جماعة القائلين: «جميع الديانات حسنة ونقبلها كلها … كلها إلا التي لا تسلم بقبولها وتدَّعي أنها وحدها قويمة وأن الحقيقة بين يديها، فإذا استعملنا تساهُلنا العادي نحو هذه الديانة كنا عاملين على تقويتها وهادمين أسس الحرية الفكرية، الحرية التي نحن أبطالها ومؤيدوها ومُعزِّزُوها».
هذه الفكرة التي ينسبها مسيو بوشي لكلرك إلى الرومان هي التي بُحَّ صوت روسو وهو ينادي بها ويدعو إليها في جميع كتاباته وخصوصًا في كتابه «العقد الاجتماعي»، وهي جَعْلُ الحرية الدينية مطلقة للجميع إلا للقائلين بوجوب محو الحرية الدينية، الاحترام والتساهل لجميع المعابد والكنائس إلا للقائل منها إنَّ «لا خلاص للخارج عنه».
ونتيجة بحث مسيو بوشي لكلرك الطويل الدقيق هي هذه، أولًا: تقبيح كلمة بوسويه: «على الملك أن يستعمل سلطته لهدم الأديان الباطلة في بلاده». ثانيًا: يضحك المؤلف قليلًا من الفيلسوف العصري مسيو إميل بوتروكس الذي يحاول توفيق النظريات العلمية بين الماديين والروحيين وبين المتعصبين للديانات والمتعصبين ضدَّها والمهملين، ويقول فيه إنه يشبه أذكياء الوثنيين القائلين: «نحن نعبد الألوهية على ثلاثمائة نوع، والألوهية تُسَرُّ خصوصًا بهذا التنوع في عبادتها». ثالثًا وأخيرًا: لئن كان مسيو بوشي لكلرك مستحسنًا طريقة الاضطهاد لمقاومي الحرية الدينية في أيام القياصرة، ومعتقدًا أن الغرض من ذلك الاضطهاد لم يكن إلا المحافظة على حرية الضمائر المهددة فإنه يشير بالعودة إلى مثل ذلك لأنه لا يرى حاجة إليه وقد تغيرت الأحوال وتعددت الظروف، فلا تنافس بين الحكومة والدين اليوم إذ ليس في هذا الزمان ما كانوا يسمونه «عبادة القيصر»، ثم إن الكنيسة لا تنهَى أبناءها عن الخدمة العسكرية حتى ولا عن الحرب عند احتياج الوطن إليها، وهو يرى أن حلَّ العقدة الدينية لا يتم إلا إذا انفصلت الحكومات عن الأديان، فلا تأييد لواحدة ولا اضطهاد لغيرها، ولا مقاومة ولا تداخل في شؤون الناس الدينية، بل لكلٍّ أن يعتنق ما تميل إليه نفسه من العقائد ويعيش حرًّا على الكيفية التي يطلبها وترتاح إليها ميوله، أما إميل فاجي فإنه يسمع هذا القول غاضبًا، ولا ينتهي إلى آخره حتى يسمعنا زئيرًا … «أكاديميًّا»، ولا يعجبه هذا ولا يرضيه، بل هو يقول بوجوب مداومة الاضطهاد حتى يُمحَى التعصب عن وجه الأرض! دع الفلاسفة يتخبَّطون في ما يحلون ويربطون، ويستحسنون ما شاءوا من حوادث التاريخ ويُقبِّحون، دع الناقدين ينتقدون وبناة النظريات يشيدون، وقل لي ما رأيك في التعصب وهل هو خصيص بدين دون غيره، وبفكرة دون فكرة، وبفئة دون فئة؟
إذا قال المسيحيون ذلك في معتقدهم، وإذا تركنا الأديان جانبًا ونظرنا إلى المناوشات العلمية والمغالطات الفنية فهل ترى في كل جدال إلا التعصب لما يعتقد واحد دون الآخر؟
ثم التعصب الجنسي، إذ كل شعب من الشعوب يظن ذاته أكثر ارتقاءً من الشعوب الأخرى، فلا يفتأ يضحك منها وينتقدها محالفًا على سحق عدوه شعوبًا كانت بالأمس له قاهرة ظالمة، وفي الحرب الحاضرة مثال جَليٌّ لذلك.
ثم التعصب العائلي، ثم التعصب الفردي، ثم تعصب المرء لأشياء في نفسه دون غيرها، حتى تعصب ما يسمونه القدر لبعض الظروف وتصميمه على إهمال ظروف أخرى ما أشد رغبتنا في الوصول إليها! كلنا تعصب في تعصب، وليست أفكارنا إلا نسيج تحزب وغرضية، ولا نستطيع أن نكون إلا كذلك.
فدعهم يتخاصمون إلى يوم القيامة، كفانا أن يساعدونا على نبش خفايا التاريخ ويعلِّمونا كيف ندرس نفوسنا ونُرقِّي ما فيها من الاستعدادات الطيبة، ولسنا في حاجة إلى الاعتقاد بكل ما يقولون، فنحن نستفيد ثم نضحك، ثم نحزن، ثم نستفيد، وهم عند أبواب النظريات يتخاصمون.