ديانة الرومان — كمعظم الديانات القديمة التي نقل إلينا التاريخ آثارها — كانت ديانة إشراك تعددت فيها الآلهة ونسخ الجديد منها عن القديم صنوفَ ألوهية شتى انتشرت صحيحة أو مُحرَّفة من قارة إلى قارة ومن بلاد إلى بلاد، هناك إله للخير وإله للشر، هناك آلهة للمياه وآلهة للجبال والوديان والنبات، هناك آلهة للحرب والسلم والجمال والحب، ليس عندهم كائن من الكائنات أو معنى من المعاني خالٍ من سلطة إله أو إلاهة خاصة، ولئن كان مسكن آلهتهم عادة ضمن حدود مملكتهم، وموضوع اجتماعهم العام الأولمبوس، فإنهم كثيرًا ما كانوا ينزلون إلى الأرض ويعيشون أيامًا أو ساعات من عيشة أهلها ويساعدونهم في حاجاتهم أو ينتقمون منهم لذنب جَنَوْه، وكثيرًا ما كانوا يرتبطون بهم بصلة النسب!
فكان تساهُل الرومان طبيعيًّا لا غرابة فيه، إذ لم يكن دينٌ من تلك الأديان ليهزأ بغيره أو ينكره، بل لم يكن يندر أن النازلين في أرض غريبة كانوا يُضِيفُونَ إلى عبادة آلهة بلادهم عبادةَ آلهة تلك البلاد فيحتفلون بأعيادها كباقي الشعب ويقدمون على مذابحها الضحايا والقرابين، يفعلون ذلك لا عن مكر أو خديعة بل عن إخلاص جميل واعتقاد في أنهم يجلبون عليهم رضى تلك الآلهة وبركاتها.
بيد أنَّ ذلك التساهل من شعب يعبد آلهةً بعضُها أوثان وبعضها رموز وبعضها خيالات، لم يرَ لذاته مكانًا إزاء دين جديد ينكر جميع الأديان مُعْرِضًا عمَّا تفرضه من الواجبات، هازئًا بما يدَّعيه فيها من الخرفات ضاحكًا من معتقدات تابعيها محتقرًا آلهتها! تلك الآلهة التي ترتجف لذكرها الشعوب من سيد فيها وعبد وملك ومملوك! آلهة سريعة الغضب، هائلة الانتقام، فكان الرومان يحسبون كل ما ينزل بهم من الكوارث أو يُبطِئ في وصوله إليهم من الخيرات إشارات انتقام آلهة مُهانة من شعب أثيم لا يقضي على الكافرين.
فكانوا إذًا يجاهدون جهادًا دينيًّا غير الجهاد السياسي، ويستشهد مسيو بوشي لكلرك — تأييدًا لهذه الفكرة — بعبارة للمتشرع بولس متكلمًا بإيعاز من ماركوس أوريليوس ومبديًا رأيه:
«يُحكَم على مُدخِلي ديانات جديدة مجهولة من حيث التعاليم والأعمال بالنفي إذا كانوا من الدرجة المتوسطة، وإذا كانوا من عامة الشعب فعقابهم الموت».
«ديانة جديدة» هذه الكلمة التي أخذت دورًا مهمًّا في محاكمة سقراط عند الأثينيين، وهذه التهمة التي حُسِبت عليه إثمًا فظيعًا كان عقابه الموت!
فعلى رغم إنكار فولتر وتهكمه قد اضطهد الرومان المسيحيين اضطهادًا دينيًّا غير الاضطهاد السياسي.
بقي أمر لا يَسْهُل النظر فيه، معقول أن المشركين لم يكونوا يميلون إلى الموحدين ولا يحتملون اعتقادهم فحاولوا فناءهم، غير أن اليهود كانوا كذلك موحدين ولا نعلم أن نصيبهم من حكومة روما كان أشبه بنصيب المسيحيين.
مسيو بوشي لكلرك يقول: إن الرومان اضطهدوا أتباع موسى بعض الاضطهاد، ولم يَعنِ بذلك الهياجات اليهودية التي أغرقتها روما في نهر من الدماء؛ لأنه يحسب ذلك إثمًا سياسيًّا أُتبِعَ حتمًا بعقوبة سياسية محضة، إلا أنَّه يؤكد حصول اضطهادات دينية، ويستشهد بأقوال استخلصها من التاريخ الروماني تدل على أن بعض الرومان قُتِل، وبعضهم حُبِسَت عنه ثروته لإنكاره دين روما تائهًا «في الاعتقادات اليهودية».
على رغم هذه التصريحات، ما زلنا نرى اليهود أقل شقاءً من المسيحيين في روما، فلماذا؟ مسيو بوشي لكلرك يعتقد أن الرومان كانوا يرون في اليهودية دينًا قوميًّا، دين الآباء والجدود، وأمر طبيعي أن يتبع المرء دينًا وُلِدَ فيه ليحافظ على عادات بلاده وقومه، لكن المسيحية دين جديد يحمل للناس أقوالًا جديدة وينشر على العالم مبادئ لم يألفها العالم؛ فلذا كان في نظر الرومان أشد خطرًا وأحرى بالاضطهاد والعقوبة.
لا بأس بهذه الأسباب التي يلقيها أمام بحثنا مسيو بوشي لكلرك، إنها قريبة معقولة، ولكن هل هي كافية؟
لا أدري ما هو حُكمك أيها القارئ، ولكني أشعر شعورًا شديدًا بأنها ناقصة وضعيفة وليس لدينا غيرها، مع الأسف.