في يوم ٢٧ من الشهر المنصرم احتفلت طوائف الكاثوليك بعيد قتل الأطفال، وهو تذكار للحادث التاريخي المعروف الذي جرى بعد ميلاد المسيح بأسابيع أو بأشهر قليلة تنفيذًا لأمر الحاكم الروماني في أورشليم، فقُتل جميع الأطفال من ذوي عامين فأقل أملًا أن يهلك معهم ذلك الذي يقصدون، على أن والديه كانا قد هربا إلى مصر (يظهر أن مصر دار هجرة السوريين وملجأ المظلومين منهم منذ عهد بعيد).
وعلى ذكر هذا العيد الذي كان فاتحة اضطهاد الرومان للنصرانية لا يقوى المفكر على دفع هذا السؤال الحائم في نفسه: «ما هو سبب اضطهاد الرومان للمسيحيين دون غيرهم؟ ولماذا جاهدت إمبراطوريتهم في خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد في سبيل قتل هذه الروح الدينية الجديدة، في حين أن الرومان كانوا أكثر الشعوب تساهلًا لتعدد العقائد وأشدهم تسامحًا لحرية الأديان؟»
لقد عالج فولتر هذا الموضوع ببراعته الفائقة، وهذه خلاصة أقواله: ما دام الجميع عالمين بما كان عليه الشعب الروماني من حسن الضيافة لكل فكرة دينية حلَّت في بلاده وما دام الجميع مصدقين في الوقت نفسه أنه اضطهد اتِّباع فكرة واحدة دون غيرها، فهذا لا يعني سوى أنه لم يضطهدها قطُّ، وأن تلك الاضطهادات المزعومة لم تكن إلا تلفيقات كتبة تلك الشيعة، وهم من الكاذبين، ولئن كان مقررًا أن بعض المسيحيين عوقبوا في حكومة الإمبراطورية، فهم لم يعاقبوا كمسيحيين بل كمجرمين سياسيين.
أنت ترى — أيها القارئ — أن براعة فولتر لا تقوم مقام جواب مقنع، وإذا صمم المرء على البحث في موضوع ذي أهمية والوقوف على حقائق الحوادث منه، فإن هذه اللهجة المملوءة بالنعرات — على خفتها وظُرفِها، ولم يكن أسلوب فولتر إلا خفيفًا ظريفًا بوجه خاص — لا تروي غليلًا بل تهيج رغبة الباحث.
لقد لمس هذا الموضوع في بعض مقالاته مسيو إميل فاجي الناقد الفرنساوي المعروف، ولكن إميل فاجي فولتر مصغر إلا ما كان عند هذا (فولتر) من الظرف الطبيعي والخفة التي لا يعادلها إلا ذكاء فولتر الوهاج وسعة معارفه العجيبة، أما فاجي ففيه شيء من التكلُّف، وإذا كانت كتاباته لذيذة ومفيدة فإنك كثيرًا ما تشعر بأنه محاول أن يكون أكثر مما هو في الواقع، وزد على ذلك أنه شديد التعصب ضد كل ما كان كاثوليكيًّا.
وأهم ما قرأت في هذا المعنى وجدته عند مسيو بوشي لكرك مؤلف القاموس التاريخي، وهذا القاموس من نوع قاموس فولتر الفلسفي، والرجل متحزِّب ضد الكثلكة أكثر منه متحزبًا لها، غير أنه يظهر من خلال سطوره أنه لم يستسلم إلى الفرضية، بل بحث في الموضوع كعالِم غيور وكتب نتيجة بحثه كمؤرخ مُخَّلصُ غايته الإفادة والحقيقة.