كثرت الحركة في هذه الليلة ولست أدري من أين أتت المدينة بالجماهير المالئة شوارعها. يتهافتون زرافات ووحدانًا إلى حيث لا يعلم الناظرون. وتحت بهاء الأنوار الإضافية التي وضعتها المحال الكبرى فوق أبوابها أخذت الأشياء هيئة عيد لائقة بها وبالمارين جميعًا … والناس كالأمواج المتدافعة، يجيئون وينثنون ثم يختفون قاصدين شوارع أخرى. يسيرون بين مجاميع سكرى بمعنى العيد وبكثرة الازدحام. والموسيقى تملأ الهواء بنغمات مختلفة الوقع في النفوس. والحانات ضائقة بنزلائها من شارب ومستزيد، والمركبات تجري نحو الفنادق الكبرى حيث يقدم عباد الخمر القرابين لإله العناقيد الناضجة ويصرفون شيئًا من القوة في سبيل رضى إلاهة الرقص، رجال ونساء يلهون ويضحكون لينسوا حياتهم العادية وما ملأها من هموم ومخاوف. وأنا، وإن كنت محبذة أساليب اللهو في هذه الليلة، أريد أن أقضي هذه الساعة وحيدة في مكتبي الصغير. ليس لدي من صنوف الخمر إلا خمر الفكر، ومن أنواع الرقص إلا رقص المخيلة، وكل ما يصلني من النغمات صوت الساعة الكبيرة، تدق الساعات وأرباع الساعات وأنصافها، ولا أرى من المناظر حولي إلا نافذتي المفتوحة على الظلمات. أرى من هذه النافذة شجرة كبيرة متململة تململ الحائر، وكأن أغصانها أذرع الشقاء تمتد في الليل يائسة، وتستغيث صامتة … وفي السماء عبوسة الدجى العميقة يتخللها كواكب كثر عددها واشتد لمعانها، كأنها تطل من أعاليها متفقدة أحوال البشر. وما أحوالنا، يا كواكب الدجى! أهبطي إلينا قطرات ضياء شفيقة، أو أمطري الأرض نثرات نار محرقة. وأخبرينا بما لديك من الأسرار. أما نحن فلا سر عندنا ولا عمل إلا تخريب ما صرفنا في تشييده أعوامًا ودهورًا!
توالي الساعة الكبيرة دقاتها الإحدى عشرة. ما بال أنوارك قد تضاءلت، أيتها الكواكب، لدى هذا الصوت؟ أظننته دوي طبول في ساحات القتال؟ لا، لا، ما هذا إلا صوت الزمان الرهيب داويًا في فضاء الأبدية. ساعة أخرى فينتهي عامنا وتفنى أيامه. لكن آثاره باقية. والأعوام التابعة مكملة ما زرعته الأعوام السابقة من الويلات والنعم.
الويلات والنعم! دموع وابتسامات! هذا إرث الإنسانية العجيب! وأغرب من ذلك أمل هذه الإنسانية الطفلة مهما شاخت في تخليد الابتسام ومحو البكاء. في الاستزادة من النعم حتى تصبح النعم كُلًّا. وفي الإنقاص من الويلات حتى تمسي الويلات عدمًا! كم جاهدت هذه الإنسانية. وما هي حتى اليوم إلا مغلوبة على أمرها. لقد زادت كمية ويلاتها ولكن كمية رجائها زادت كذلك.
.. صوت الزمان يمحو ربعًا من الساعة الوحيدة الحائرة بين شطي الأبدية. وهذا الصوت يهزني حتى يمسك يدي عن الكتابة ونفسي عن التفكير. أرفع بنظري إلى الأفق فأرى بين شموع الظلام المجرة — نهر الحب في خرافات اليابان — تحضن العالمين بذراع مؤلفة من ملايين النجوم، وأفكر في الزمان فأجده نهرًا جاريًا يحضن الحياة من أقصاها إلى أقصاها — ها الساعة تدق نصف الحادية عشرة!
ها أنت تخطو نحونا، أيها العام الجديد، فماذا نسألك؟ وهل أنت مصغٍ لمطالبنا أم أنت كالسنوات الماضيات تبزغ باسمًا، ولا تودعنا إلا بعد استنزاف أطيب ما لدينا من الدموع وأغلى ما في قلوبنا من الآمال؟ كثر الحزانى في هذه الليلة، وكثر الفرحون. فهل تشفق، أنت المقبل، على الحزانى فلا تزيد في أحزانهم، وعلى غير الحزانى فتبعد عنهم الشقاء؟
جاءت الدقائق الأخيرة من ١٩١٥، دقائق الوداع. إلى جانبي ساعة لا أرها بل أسمعها تدق بصوت شجي، وأمامي ساعة صغيرة تنقضي عليها الأوقات فتدق بعقاربها على الرحيل صامتة، وفي الظلام البعيد، تلك الساعة الكبيرة تدوي معلمة مرعبة.
إن لهذه الدقائق الليلة عظمة القوافل الراحلة … ولمرورها تأخذ الأشياء معنى عظمة حزينة وجمال قاتم مهيب. بقي دقيقتان فقط، ويخيل إلي أن العقارب تسرع بالدوران فيخفق قلبي لهذا الوداع الذي لا وجع منه … وداع جزء من الزمان العام ينتظر العام الجديد ليفرح.
هذا نصف الليل ينوح بدقاته الاثنتي عشرة والأجراس المسيحية تحيي العام المولود. الآن تتلامس الكؤوس العسجدية وتمتزج الخمرة بالأرواح، وتبتسم الشفاه للشفاه، وتتناجى العيون، وتكثر الأدعية بالبركات والهناء … دخلت السنة الجديدة في دورها المحتم وقضت من حياتها دقائق ثلاث … ما أبسط الانتقال من الوداع إلى التحية!
غير أني لما رأيت العقرب لامسًا الدقيقة الأخيرة من ١٩١٥ وسمعت الساعة الكبيرة تعد أصواتها الاثنتي عشرة، خيل إلي أن غصون الشجرة الكبيرة تلتوي في الظلام، وأن صراخًا هائلًا يملأ الآفاق بينا شىء عظيم جدًا شهق طويلًا ثم جمد جمودًا أبديًا.
ما هذا؟
دقي أيتها النواقيس ألحان أفراحكِ ونغمي على موجات الظلام […] يا ليت قلوبنا آلية مثلكِ، ومثلكِ سريعة الانفعال! دقي ساعة الرجاء، فما […] في ساعة اليأس الذى لا رجاء بعده! دقي، أيتها النواقيس. فإن فرحكِ يمتد إلى ذرات النفوس. ها […]مترنمة مثلكِ. ولا يهمنا ما سيحمله إلينا هذا العام من مسرات وأتراح. […] الوقتي الآن. وكفانا نشيدكِ في موجات الظلام!